واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم [ ص: 993 ] يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا
(16) لما ذكر قصة
زكريا ويحيى، وكانت من الآيات العجيبة، انتقل منها إلى ما هو أعجب منها، تدريجا من الأدنى إلى الأعلى فقال:
واذكر في الكتاب : الكريم
مريم : عليها السلام، وهذا من أعظم فضائلها، أن تذكر في الكتاب العظيم، الذي يتلوه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، تذكر فيه بأحسن الذكر، وأفضل الثناء، جزاء لعملها الفاضل، وسعيها الكامل؛ أي: واذكر في الكتاب
مريم، في حالها الحسنة، حين
انتبذت ؛ أي: تباعدت عن أهلها
مكانا شرقيا ؛ أي: مما يلي الشرق عنهم.
(17)
فاتخذت من دونهم حجابا ؛ أي: سترا ومانعا، وهذا التباعد منها واتخاذ الحجاب؛ لتعتزل وتنفرد بعبادة ربها، وتقنت له في حالة الإخلاص والخضوع والذل لله تعالى، وذلك امتثال منها لقوله تعالى:
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، وقوله
فأرسلنا إليها روحنا وهو
جبريل عليه السلام
فتمثل لها بشرا سويا ؛ أي: كاملا من الرجال في صورة جميلة وهيئة حسنة، لا عيب فيه ولا نقص؛ لكونها لا تحتمل رؤيته على ما هو عليه. (18) فلما رأته في هذه الحال وهي معتزلة عن أهلها منفردة عن الناس، قد اتخذت الحجاب عن أعز الناس عليها - وهم أهلها - خافت أن يكون رجلا قد تعرض لها بسوء وطمع فيها، فاعتصمت بربها واستعاذت منه فقالت له:
إني أعوذ بالرحمن منك ؛ أي: ألتجئ به وأعتصم برحمته أن تنالني بسوء
إن كنت تقيا ؛ أي: إن كنت تخاف الله وتعمل بتقواه فاترك التعرض لي، فجمعت بين الاعتصام بربها وبين تخويفه وترهيبه وأمره بلزوم التقوى، وهي في تلك الحالة الخالية والشباب والبعد عن الناس، وهو في ذلك الجمال الباهر والبشرية الكاملة السوية، ولم ينطق لها بسوء أو يتعرض لها، وإنما ذلك خوف منها، وهذا أبلغ ما يكون من العفة والبعد عن الشر وأسبابه، وهذه العفة - خصوصا مع اجتماع الدواعي وعدم المانع - من أفضل الأعمال، ولذلك أثنى الله عليها، فقال:
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين فأعاضها الله بعفتها ولدا من آيات الله ورسولا من رسله.
(19) فلما رأى
جبريل منها الروع والخيفة قال
إنما أنا رسول ربك ؛
[ ص: 994 ] أي: إنما وظيفتي وشغلي تنفيذ رسالة ربي فيك
لأهب لك غلاما زكيا وهذه بشارة عظيمة بالولد وزكائه، فإن الزكاء يستلزم تطهيره من الخصال الذميمة، واتصافه بالخصال الحميدة. (20) فتعجبت من وجود الولد من غير أب، فقالت:
أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا والولد لا يوجد إلا بذلك.
(21)
قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس تدل على كمال قدرة الله تعالى، وعلى أن
الأسباب جميعها لا تستقل بالتأثير وإنما تأثيرها بتقدير الله، فيري عباده خرق العوائد في بعض الأسباب العادية؛ لئلا يقفوا مع الأسباب، ويقطعوا النظر عن مقدرها ومسببها
ورحمة منا ؛ أي: ولنجعله رحمة منا به وبوالدته وبالناس.
أما رحمة الله به فلما خصه الله بوحيه ومن عليه بما من به على أولي العزم، وأما رحمته بوالدته فلما حصل لها من الفخر والثناء الحسن والمنافع العظيمة، وأما رحمته بالناس فإن أكبر نعمه عليهم أن بعث فيهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، فيؤمنون به ويطيعونه، وتحصل لهم سعادة الدنيا والآخرة.
وكان ؛ أي: وجود
عيسى عليه السلام على هذه الحالة
أمرا مقضيا قضاء سابقا، فلا بد من نفوذ هذا التقدير والقضاء، فنفخ
جبريل - عليه السلام - في جيبها.