فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا
(22) أي: لما حملت
بعيسى عليه السلام خافت من الفضيحة؛ فتباعدت عن الناس
مكانا قصيا . (23) فلما قرب ولادها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، وكانت نسيا منسيا، فلا تذكر، وهذا التمني بناء على ذلك المزعج، وليس في هذه الأمنية خير لها ولا مصلحة، وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل.
[ ص: 995 ] (24) فحينئذ سكن الملك روعها، وثبت جأشها، وناداها من تحتها، لعله في مكان أنزل من مكانها، وقال لها: لا تحزني؛ أي: لا تجزعي ولا تهتمي، فـ
قد جعل ربك تحتك سريا ؛ أي: نهرا تشربين منه.
(25)
وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا ؛ أي: طريا لذيذا نافعا.
فكلي من التمر،
واشربي من النهر
وقري عينا بعيسى، فهذا طمأنينتها من جهة السلامة من ألم الولادة، وحصول المأكل والمشرب الهني، وأما من جهة قالة الناس فأمرها أنها إذا رأت أحدا من البشر أن تقول على وجه الإشارة:
إني نذرت للرحمن صوما ؛ أي: سكوتا
فلن أكلم اليوم إنسيا ؛ أي: لا تخاطبيهم بكلام؛ لتستريحي من قولهم وكلامهم، وكان معروفا عندهم أن السكوت من العبادات المشروعة. وإنما لم تؤمر بمخاطبتهم في نفي ذلك عن نفسها؛ لأن الناس لا يصدقونها، ولا فيه فائدة، وليكون تبرئتها بكلام
عيسى في المهد أعظم شاهد على براءتها؛ فإن إتيان المرأة بولد من دون زوج - ودعواها أنه من غير أحد - من أكبر الدعاوى، التي لو أقيم عدة من الشهود لم تصدق بذلك، فجعلت بينة هذا الخارق للعادة أمرا من جنسه، وهو كلام
عيسى في حال صغره جدا، ولهذا قال تعالى: