فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا
(27) أي: فلما تعلت مريم من نفاسها، أتت
بعيسى قومها تحمله؛ وذلك لعلمها ببراءة نفسها وطهارتها، فأتت غير مبالية ولا مكترثة، فقالوا:
لقد جئت شيئا فريا ؛ أي: عظيما وخيما، وأرادوا بذلك البغي، حاشاها من ذلك.
(28)
يا أخت هارون الظاهر أنه أخ لها حقيقي، فنسبوها إليه، وكانوا
[ ص: 996 ] يسمون بأسماء الأنبياء، وليس هو
هارون بن عمران أخا
موسى؛ لأن بينهما قرونا كثيرة
ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ؛ أي: لم يكن أبواك إلا صالحين سالمين من الشر، وخصوصا هذا الشر، الذي يشيرون إليه، وقصدهم: فكيف كنت على غير وصفهما؟ وأتيت بما لم يأتيا به؟ وذلك أن الذرية - في الغالب - بعضها من بعض في الصلاح وضده، فتعجبوا - بحسب ما قام بقلوبهم - كيف وقع منها؟! (29)
فأشارت لهم
إليه ؛ أي: كلموه، وإنما أشارت لذلك؛ لأنها أمرت عند مخاطبة الناس لها أن تقول:
إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فلما أشارت إليهم بتكليمه تعجبوا من ذلك وقالوا:
كيف نكلم من كان في المهد صبيا ؛ لأن ذلك لم تجر به عادة، ولا حصل من أحد في ذلك السن.
(30) فحينئذ قال
عيسى - عليه السلام - وهو في المهد صبي:
إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا فخاطبهم بوصفه بالعبودية، وأنه ليس فيه صفة يستحق بها أن يكون إلها، أو ابنا للإله، تعالى الله عن قول النصارى المخالفين
لعيسى في قوله
إني عبد الله ومدعون موافقته،
آتاني الكتاب ؛ أي: قضى أن يؤتيني الكتاب،
وجعلني نبيا فأخبرهم بأنه عبد الله، وأن الله علمه الكتاب، وجعله من جملة أنبيائه، فهذا من كماله لنفسه. (31) ثم ذكر تكميله لغيره فقال:
وجعلني مباركا أين ما كنت ؛ أي: في أي مكان، وأي زمان، فالبركة جعلها الله في من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل من جالسه أو اجتمع به نالته بركته، وسعد به مصاحبه.
وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا ؛ أي:
أوصاني بالقيام بحقوقه، التي من أعظمها الصلاة، وحقوق عباده، التي أجلها الزكاة، مدة حياتي؛ أي: فأنا ممتثل لوصية ربي، عامل عليها، منفذ لها. (32)
وأوصاني - أيضا - أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان، وأقوم بما ينبغي لها؛ لشرفها وفضلها، ولكونها والدة لها حق الولادة وتوابعها.
ولم يجعلني جبارا ؛ أي: متكبرا على الله، مترفعا على عباده،
شقيا في دنياي أو أخراي، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له، خاضعا خاشعا متذللا متواضعا لعباد الله، سعيدا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني.
[ ص: 997 ] (33) فلما تم له الكمال ومحامد الخصال قال:
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ؛ أي: من فضل ربي وكرمه حصلت لي السلامة يوم ولادتي، ويوم موتي، ويوم بعثي، من الشر والشيطان والعقوبة، وذلك يقتضي سلامته من الأهوال ودار الفجار، وأنه من أهل دار السلام، فهذه معجزة عظيمة، وبرهان باهر، على أنه رسول الله، وعبد الله حقا.