ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى [ ص: 1031 ] (56) يخبر تعالى أنه أرى
فرعون من الآيات والعبر والقواطع جميع أنواعها: العيانية، والأفقية، والنفسية، فما استقام ولا ارعوى، وإنما كذب وتولى، كذب الخبر، وتولى عن الأمر والنهي، وجعل الحق باطلا والباطل حقا، وجادل بالباطل ليضل الناس. (57) فقال:
أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك زعم أن هذه الآيات التي أراه إياها
موسى سحر وتمويه، المقصود منها إخراجهم من أرضهم، والاستيلاء عليها؛ ليكون كلامه مؤثرا في قلوب قومه، فإن الطباع تميل إلى أوطانها، ويصعب عليها الخروج منها ومفارقتها، فأخبرهم أن
موسى هذا قصده؛ ليبغضوه، ويسعوا في محاربته. (58)
فلنأتينك بسحر مثل سحرك فأمهلنا، واجعل لنا
موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى ؛ أي: مستو علمنا وعلمك به، أو مكانا مستويا معتدلا؛ لنتمكن من رؤية ما فيه.
(59) فقال موسى:
موعدكم يوم الزينة وهو عيدهم، الذي يتفرغون فيه ويقطعون شواغلهم،
وأن يحشر الناس ضحى ؛ أي: يجمعون كلهم في وقت
[ ص: 1032 ] الضحى، وإنما سأل
موسى ذلك؛ لأن يوم الزينة ووقت الضحى منه يحصل منه كثرة الاجتماع، ورؤية الأشياء على حقائقها ما لا يحصل في غيره. (60)
فتولى فرعون فجمع كيده ؛ أي: جميع ما يقدر عليه، مما يكيد به
موسى، فأرسل في مدائنه من يحشر السحرة الماهرين في سحرهم، وكان السحر إذ ذاك، متوفرا، وعلمه مرغوبا فيه، فجمع خلقا كثيرا من السحرة، ثم أتى كل منهما للموعد، واجتمع الناس للموعد، فكان الجمع حافلا، حضره الرجال والنساء، والملأ والأشراف، والعوام، والصغار، والكبار، وحضوا الناس على الاجتماع، وقالوا للناس:
هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين . (61) فحين اجتمعوا من جميع البلدان، وعظهم
موسى - عليه السلام - وأقام عليهم الحجة، وقال لهم:
ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب ؛ أي: لا تنصروا ما أنتم عليه من الباطل بسحركم، وتغالبون الحق، وتفترون على الله الكذب، فيستأصلكم بعذاب من عنده، ويخيب سعيكم وافتراؤكم، فلا تدركون ما تطلبون من النصر والجاه عند
فرعون وملئه، ولا تسلموا من عذاب الله. (62) وكلام الحق لا بد أن يؤثر في القلوب، لا جرم ارتفع الخصام والنزاع بين السحرة لما سمعوا كلام
موسى، وارتبكوا، ولعل من جملة نزاعهم الاشتباه في
موسى، هل هو على الحق أم لا؟ ولكنهم إلى الآن ما تم أمرهم؛ ليقضي الله أمرا كان مفعولا
ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فحينئذ أسروا فيما بينهم النجوى، وأنهم يتفقون على مقالة واحدة؛ لينجحوا في مقالهم وفعالهم، وليتمسك الناس بدينهم. (63) والنجوى التي أسروها فسرها بقوله:
قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى كمقالة
فرعون السابقة، فإما أن يكون ذلك توافقا من
فرعون والسحرة على هذه المقالة من غير قصد، وإما أن يكون تلقينا منه لهم مقالته، التي صمم عليها وأظهرها للناس، وزادوا على قول
فرعون أن قالوا:
ويذهبا بطريقتكم المثلى أي: طريقة السحر، حسدكم عليها، وأراد أن يظهر عليكم؛ ليكون له الفخر والصيت والشهرة، ويكون هو المقصود بهذا العلم، الذي شغلتم زمانكم فيه، ويذهب عنكم ما كنتم تأكلون بسببه، وما يتبع ذلك من الرياسة.
[ ص: 1033 ] (64) وهذا حض من بعضهم على بعض على الاجتهاد في مغالبته، ولهذا قالوا:
فأجمعوا كيدكم أي: أظهروه دفعة واحدة متظاهرين متساعدين فيه، متناصرين، متفقا رأيكم وكلمتكم،
ثم ائتوا صفا ليكون أمكن لعملكم، وأهيب لكم في القلوب، ولئلا يترك بعضكم بعض مقدوره من العمل، واعلموا أن من أفلح اليوم ونجح وغلب غيره، فإنه المفلح الفائز، فهذا يوم له ما بعده من الأيام.
فما أصلبهم في باطلهم، وأشدهم فيه، حيث أتوا بكل سبب ووسيلة وممكن ومكيدة يكيدون بها الحق. (65) ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ويظهر الحق على الباطل، فلما تمت مكيدتهم، وانحصر مقصدهم، ولم يبق إلا العمل
قالوا لموسى
إما أن تلقي عصاك
وإما أن نكون أول من ألقى خيروه، موهمين أنهم على جزم من ظهورهم عليه بأي حالة كانت. (66) فقال لهم
موسى: بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم،
فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه أي: إلى
موسى من سحرهم البليغ
أنها تسعى أنها حيات تسعى. (67) فلما خيل إلى
موسى ذلك أوجس في نفسه خيفة، كما هو مقتضى الطبيعة البشرية، وإلا فهو جازم بوعد الله ونصره.
(68) قلنا له تثبيتا وتطمينا:
لا تخف إنك أنت الأعلى عليهم؛ أي: ستعلو عليهم وتقهرهم، ويذلوا لك ويخضعوا.
(69)
وألق ما في يمينك أي: عصاك
تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى أي: كيدهم ومكرهم ليس بمثمر لهم ولا ناجح، فإنه من كيد السحرة، الذين يموهون على الناس، ويلبسون الباطل، ويخيلون أنهم على الحق. (70) فألقى
موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا كله وأكلته، والناس ينظرون لذلك الصنيع، فعلم السحرة علما يقينا أن هذا ليس بسحر، وأنه من الله، فبادروا للإيمان.
فألقي السحرة ساجدين
قالوا آمنا برب العالمين رب موسى [ ص: 1034 ] وهارون فوقع الحق وظهر وسطع، وبطل السحر والمكر والكيد في ذلك المجمع العظيم.
فصارت بينة ورحمة للمؤمنين وحجة على المعاندين. (71) فقال
فرعون للسحرة
آمنتم له قبل أن آذن لكم ؛ أي: كيف أقدمتم على الإيمان من دون مراجعة مني ولا إذن؟ استغرب ذلك منهم لأدبهم معه وذلهم وانقيادهم له في كل أمر من أمورهم، وجعل هذا من ذاك، ثم استلج فرعون في كفره وطغيانه بعد هذا البرهان، واستخف بقوله قومه، وأظهر لهم أن هذه الغلبة من موسى للسحرة ليس لأن الذي معه الحق بل لأنه تمالأ هو والسحرة ومكروا ودبروا أن يخرجوا فرعون وقومه من بلادهم، فقبل قومه هذا المكر منه وظنوه صدقا
فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين مع أن هذه المقالة التي قالها لا تدخل عقل من له أدنى مسكة من عقل ومعرفة بالواقع، فإن
موسى أتى من
مدين وحيدا، وحين أتى لم يجتمع بأحد من السحرة ولا غيرهم، بل بادر إلى دعوة
فرعون وقومه، وأراهم الآيات، فأراد
فرعون أن يعارض ما جاء به
موسى، فسعى ما أمكنه وأرسل في مدائنه من يجمع له كل ساحر عليم، فجاؤوا إليه، ووعدهم الأجر والمنزلة عند الغلبة، وهم حرصوا غاية الحرص، وكادوا أشد الكيد على غلبتهم
لموسى، وكان منهم ما كان، فهل يمكن أن يتصور مع هذا أن يكونوا دبروا هم
وموسى واتفقوا على ما صدر؟ هذا من أمحل المحال. ثم توعد
فرعون السحرة فقال:
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، كما يفعل بالمحارب الساعي بالفساد، يقطع يده اليمنى ورجله اليسرى
ولأصلبنكم في جذوع النخل أي لأجل أن تشتهروا وتختزوا
ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يعني: بزعمه هو وأمته، وأنه أشد عذابا من الله وأبقى؛ قلبا للحقائق، وترهيبا لمن لا عقل له.
(72) ولهذا لما عرف السحرة الحق ورزقهم الله من العقل ما يدركون به الحقائق أجابوه بقولهم:
لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات أي: لن نختارك وما وعدتنا به من الأجر والتقريب على ما أرانا الله من الآيات البينات الدالات على أن الله هو الرب المعبود وحده، المعظم المبجل وحده، وأن ما سواه باطل، ونؤثرك على الذي فطرنا وخلقنا، هذا لا يكون
فاقض ما أنت قاض مما أوعدتنا به من القطع والصلب والعذاب،
إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ؛ أي:
[ ص: 1035 ] إنما توعدنا به غاية ما يكون في هذه الحياة الدنيا ينقضي ويزول ولا يضرنا بخلاف عذاب الله لمن استمر على كفره فإنه دائم عظيم، وهذا كأنه جواب منهم لقوله:
ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى وفي هذا الكلام من السحرة دليل على أنه ينبغي للعاقل أن يوازن بين لذات الدنيا ولذات الآخرة، وبين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
(73)
إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا ؛ أي: كفرنا ومعاصينا؛ فإن الإيمان مكفر للسيئات والتوبة تجب ما قبلها. وقولهم:
وما أكرهتنا عليه من السحر الذي عارضنا به الحق، هذا دليل على أنهم غير مختارين في عملهم المتقدم، وإنما أكرههم
فرعون إكراها.
والظاهر -والله أعلم- أن
موسى لما وعظهم - كما تقدم - في قوله:
ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب أثر معهم ووقع منهم موقعا كبيرا، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة، ثم إن
فرعون ألزمهم ذلك وأكرههم على المكر الذي أجروه، ولهذا تكلموا بكلامه السابق قبل إتيانهم حيث قالوا:
إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما فجروا على ما سنه لهم وأكرههم عليه، ولعل هذه النكتة التي قامت بقلوبهم من كراهتهم لمعارضة الحق بالباطل وفعلهم ما فعلوا على وجه الإغماض هي التي أثرت معهم، ورحمهم الله بسببها، ووفقهم للإيمان والتوبة.
والله خير مما وعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه،
وأبقى ثوابا وإحسانا، لا ما يقول
فرعون ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى يريد أنه أشد عذابا وأبقى. وجميع ما أتى من قصص
موسى مع
فرعون يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة أن
فرعون توعدهم بالقطع والصلب ولم يذكر أنه فعل ذلك، ولم يأت في ذلك حديث صحيح، والجزم بوقوعه أو عدمه يتوقف على الدليل، والله أعلم بذلك وغيره، ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره دليل على وقوعه؛ ولأنه لو لم يقع لذكره الله، ولاتفاق الناقلين على ذلك