صفحة جزء
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون

(91) أي: واذكر مريم - عليها السلام - مثنيا عليها مبينا لقدرها، شاهرا لشرفها، فقال: والتي أحصنت فرجها ؛ أي: حفظته من الحرام وقربانه، بل ومن الحلال، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها بالخدمة لربها، وحين جاءها جبريل في صورة بشر سوي تام الخلق والحسن قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا فجازاها الله من جنس عملها، ورزقها ولدا من غير أب، بل نفخ فيها جبريل - عليه السلام - فحملت بإذن الله، وجعلناها وابنها آية للعالمين حيث حملت به ووضعته من دون مسيس أحد، وحيث تكلم في المهد، وبرأها مما ظن بها المتهمون، وأخبر عن نفسه في تلك الحالة، وأجرى الله على يديه من الخوارق والمعجزات ما هو معلوم، فكانت وابنها آية للعالمين، يتحدث بها جيلا بعد جيل، ويعتبر بها المعتبرون.

(92) ولما ذكر الأنبياء - عليهم السلام- قال مخاطبا للناس: إن هذه أمتكم أمة واحدة ؛ أي: هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وأئمتكم الذين بهم تأتمون، وبهديهم تقتدون، كلهم على دين واحد، وصراط واحد، والرب أيضا واحد؛ ولهذا قال: وأنا ربكم الذي خلقتكم وربيتكم بنعمتي في الدين والدنيا، فإذا كان [ ص: 1083 ] الرب واحدا والنبي واحدا والدين واحدا - وهو عبادة الله وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادة - كان وظيفتكم والواجب عليكم القيام بها، ولهذا قال: فاعبدون فرتب العبادة على ما سبق بالفاء ترتيب المسبب على سببه.

(93) وكان اللائق الاجتماع على هذا الأمر وعدم التفرق فيه، ولكن البغي والاعتداء أبيا إلا الافتراق والتقطع، ولهذا قال: وتقطعوا أمرهم بينهم ؛ أي: تفرق الأحزاب المنتسبون لأتباع الأنبياء فرقا، وتشتتوا، كل يدعي أن الحق معه والباطل مع الفريق الآخر و كل حزب بما لديهم فرحون ، وقد علم أن المصيب منهم من كان سالكا للدين القويم، والصراط المستقيم، مؤتما بالأنبياء، وسيظهر هذا إذا انكشف الغطاء، وبرح الخفاء، وحشر الله الناس لفصل القضاء، فحينئذ يتبين الصادق من الكاذب، ولهذا قال: كل من الفرق المتفرقة وغيرهم إلينا راجعون ؛ أي: فنجازيهم أتم الجزاء.

(94) ثم فصل جزاءه فيهم، منطوقا ومفهوما، فقال: فمن يعمل من الصالحات ؛ أي: الأعمال التي شرعتها الرسل وحثت عليها الكتب وهو مؤمن بالله وبرسله، وما جاءوا به فلا كفران لسعيه ؛ أي: لا نضيع سعيه ولا نبطله، بل نضاعفه له أضعافا كثيرة. وإنا له كاتبون ؛ أي: مثبتون له في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي مع الحفظة؛ أي: ومن لم يعمل من الصالحات أو عملها وهو ليس بمؤمن فإنه محروم، خاسر في دينه ودنياه.

التالي السابق


الخدمات العلمية