وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان.. بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته، وأوضح سماته. وهي آية جليلة الشأن، عميقة الدلالة، واسعة المجال:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم. لا تأخذه سنة ولا نوم. له ما في السماوات وما في الأرض. من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يئوده حفظهما. وهو العلي العظيم ..
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل الهام. الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس، ويتضح، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس، ترتكن إلى الوضوح واليقين.
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني. بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها; ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة.. حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !.
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح.
الله لا إله إلا هو .
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد
عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد، ولكنها تلبسه بالأساطير، كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له!.
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي; والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها. فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة. فلا يكون إنسان عبدا إلا لله، ولا يتجه بالعبادة إلا لله، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله، وما يأمره الله به من الطاعات. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة: الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد; ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله. وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله; فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله.. وهكذا إلى آخر
[ ص: 287 ] ما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء.
الحي القيوم .
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق. ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى. كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية. ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى. ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة. فالله - سبحانه -
ليس كمثله شيء ، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر.. وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر!
أما صفة
القيوم . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود. كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره.. لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق -
أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه.. وتركه.. فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي. يقوم على أساس أن
الله - سبحانه - قائم على كل شيء، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره.. ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد; الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله، وفق حكمة وتدبير، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير; ويستمد منه قيمه وموازينه، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين.
لا تأخذه سنة ولا نوم .
وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء، وقيام كل شيء به. ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم. في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء..
ليس كمثله شيء .. وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق، وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا..
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة.. حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل; ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها; وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره.. إنه أمر.. أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني. وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس.
ويحير العقول، وتطمئن به القلوب..
له ما في السماوات وما في الأرض ..
فهي الملكية الشاملة. كما أنها هي الملكية المطلقة.. الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة. وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد، القيوم الواحد، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم. كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس. فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء. إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء. ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروط
[ ص: 288 ] المالك المستخلف في هذه الملكية. وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته; فليس لهم أن يخرجوا عنها; وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف، ووقعت تصرفاتهم باطلة، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض.. وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه.
وحين يقول الله في القرآن الكريم:
له ما في السماوات وما في الأرض .. فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية; إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك.
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير.. مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض.. مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال: إنه يملكه; ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض.. مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم.. مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع، وحدة الشح والحرص، وحدة التكالب المسعور. وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ; والسماحة والجود بالموجود; وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء; فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع; ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب!.
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ ..
وهذه صفة أخرى من صفات الله; توضح مقام الألوهية ومقام العبودية.. فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية لا يتعدونه ولا يتجاوزونه، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع; الذي لا يقدم بين يدي ربه;
ولا يجرؤ على الشفاعة عنده، إلا بعد أن يؤذن له، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده .. وهم يتفاضلون فيما بينهم، ويتفاضلون في ميزان الله. ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد..
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية. يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية; التي توحي بأن هذا أمر لا يكون; وأنه مستنكر أن يكون. فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟
وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور، أو زعموا له - سبحانه - أندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما. أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له.. في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن; ولا تجول في الخاطر، ولا تلوح بظلها في خيال!.
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي; فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم، أو اهتزاز في الرؤية! الألوهية ألوهية. والعبودية عبودية. ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء. والرب رب، والعبد عبد. ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء.
فأما صلة العبد بالرب، ورحمة الرب للعبد ، والقربى والود والمدد.. فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا; ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا; ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة. دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية. ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة!.
[ ص: 289 ] يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ..
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه، وفي تحديد مقامه هو من إلهه. فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم. فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم; ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب. كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت. وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه.. أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه..
وشطر الحقيقة الأول..
علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم.. من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة. النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها. يعلم ما تضمر علمه بما تجهر. ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل. ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه..
شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان; كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه.
وشطر الحقيقة الثاني.. أن
الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه .. جدير بأن يتدبره الناس طويلا، وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة.
ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ..
إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا. وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه; تصديقا لوعده الحق:
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق .. ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة; ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه. سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه; أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين..
يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك; فينسون الإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم. فلا يذكرون ولا يشكرون. بل يتبجحون وقد يكفرون.
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه. ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق. وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة.
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة.. زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا، وما يزال عصيا، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل! وزوى عنه سر اللحظة القادمة. فهي غيب لا سبيل إليه. والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه.. وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص; ثم يسدل الستر ويسود السكون ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه!.
وزوى عنه أسرارا كثيرة.. زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض.. والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة..
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم، الذي أحاط به بعد الإذن. يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضع
[ ص: 290 ] والتضامن. فقد بدؤوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا!.
وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يئوده حفظهما .
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق; على طريقة القرآن في التعبير التصويري، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا. فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك. فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه. وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية. ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن. وكذلك التعبير بقوله:
ولا يئوده حفظهما فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة. صورة انعدام الجهد والكلال. لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس.
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية; ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن
الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن. ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان.
وهو العلي العظيم ..
وهذه خاتمة الصفات في الآية، تقرر حقيقة، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة. وتفرد الله سبحانه بالعلو، وتفرده سبحانه بالعظمة. فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر. فلم يقل وهو علي عظيم، ليثبت الصفة مجرد إثبات. ولكنه قال:
العلي العظيم ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك!.
إنه المتفرد بالعلو، المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون; وإلى العذاب في الآخرة والهوان. وهو يقول:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا .. ويقول عن
فرعون في معرض الهلاك:
إنه كان عاليا ..
ويعلو الإنسان ما يعلو، ويعظم الإنسان ما يعظم، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم. وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه; وترده إلى مخافة الله ومهابته; وإلى الشعور بجلاله وعظمته; وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده. فهي اعتقاد وتصور. وهي كذلك عمل وسلوك..