ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل، الذين جاءوا قومهم بدين واحد، فتفرق أتباعهم شيعا وأحزابا:
وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم - بغيا بينهم - ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ..
فهم لم يتفرقوا عن جهل; ولم يتفرقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم، ويربط رسلهم ومعتقداتهم. إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم. تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء. تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة، والشهوات الباغية. تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم. ولو أخلصوا لعقيدتهم، واتبعوا منهجهم ما تفرقوا.
ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم الله أخذا عاجلا، جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق. ولكن كلمة سبقت من الله لحكمة أرادها، بإمهالهم إلى أجل مسمى
ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم .. فحق الحق وبطل الباطل وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا. ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم.
[ ص: 3149 ] فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي، فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم; إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء، وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات:
وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ..
وما هكذا تكون العقيدة. فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن، فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد. والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع، فلا يضل ولا يحيد. فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع شك ومثار ريبة، فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها، ولا قرار له على وجهة، ولا اطمئنان إلى طريق.
ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى الله; ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال. فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد، وهم أنفسهم حائرون.
وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد.
يقول الأستاذ الهندي
أبو الحسن الندوي في كتابه: " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين " :
" أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها، وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام، وعسف الحكام، وشغلت بنفسها، لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة، وأفلست في معنوياتها، ونضب معين حياتها، لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي، ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري "
ويقول الكاتب الأوربي "
ج. هـ. دنيسون " في كتابه " العواطف كأساس للحضارة " :
" ففي القرنين الخامس والسادس كان العالم المتمدين على شفا جرف هار من الفوضى، لأن العقائد التي كانت تعين على إقامة الحضارة كانت قد انهارت; ولم يك ثم ما يعتد به مما يقوم مقامها. وكان يبدو إذ ذاك أن المدنية الكبرى، التي تكلف بناؤها جهود أربعة آلاف سنة، مشرفة على التفكك والانحلال; وأن البشرية توشك أن ترجع ثانية إلى ما كانت عليه من الهمجية، إذ القبائل تتحارب وتتناحر، لا قانون ولانظام. أما النظم التي خلقتها المسيحية فكانت تعمل على الفرقة والانهيار، بدلا من الاتحاد والنظام. وكانت
المدينة كشجرة ضخمة متفرعة امتد ظلها إلى العالم كله. واقفة تترنح وقد تسرب إليها العطب حتى اللباب.. وبين مظاهر هذا الفساد الشامل ولد الرجل الذي وحد العالم جميعه " .. يعني
محمدا - صلى الله عليه وسلم..
ولأن أتباع الرسل تفرقوا - من بعد ما جاءهم العلم - ولأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم كانوا في شك منه مريب.. لهذا وذلك، ولخلو مركز القيادة البشرية من قائد ثبت مستيقن يعرف طريقه إلى الله.. أرسل الله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - ووجه إليه الأمر أن يدعو وأن يستقيم على دعوته، وألا يلتفت إلى الأهواء المصطرعة حوله وحول دعوته الواضحة المستقيمة; وأن يعلن تجديد الإيمان بالدعوة الواحدة التي شرعها الله للنبيين أجمعين:
[ ص: 3150 ] فلذلك فادع واستقم كما أمرت، ولا تتبع أهواءهم، وقل: آمنت بما أنزل الله من كتاب. وأمرت لأعدل بينكم. الله ربنا وربكم. لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. لا حجة بيننا وبينكم. الله يجمع بيننا، وإليه المصير ..
إنها القيادة الجديدة للبشرية جمعاء. القيادة الحازمة المستقيمة على نهج واضح ويقين ثابت. تدعو إلى الله على بصيرة، وتستقيم على أمر الله دون انحراف، وتنأى عن الأهواء المضطربة المتناوحة من هنا وهناك. القيادة التي تعلن وحدة الرسالة ووحدة الكتاب ووحدة النهج والطريق، والتي ترد الإيمان إلى أصله الثابت الواحد، وترد البشرية كلها إلى ذلك الأصل الواحد :
وقل : آمنت بما أنزل الله من كتاب .. ثم هو الاستعلاء والهيمنة بالحق والعدل.
وأمرت لأعدل بينكم .. فهي قيادة ذات سلطان. تعلن العدل في الأرض بين الجميع. (هذا والدعوة بعد في
مكة محصورة بين شعابها مضطهدة هي وأصحابها، ولكن طبيعتها المهيمنة الشاملة تبدو واضحة) . وتعلن الربوبية الواحدة:
الله ربنا وربكم .. وتعلن فردية التبعة :
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم .. وتعلن إنهاء الجدل بالقول الفصل:
لا حجة بيننا وبينكم .. وتكل الأمر كله إلى الله صاحب الأمر الأخير :
الله يجمع بيننا وإليه المصير ..
وتكشف هذه الآية الواحدة عن طبيعة هذه الرسالة الأخيرة في مقاطعها القصيرة الفاصلة على هذا النحو الجامع الحازم الدقيق. فهي رسالة جاءت لتمضي في طريقها لا تتأثر بأهواء البشر، وجاءت لتهيمن، فتحقق العدالة في الأرض، وجاءت لتوحد الطريق إلى الله كما هو في حقيقته موحد على مدى الرسالات..
وبعد وضوح القضية على هذا النحو، واستجابة العصبة المؤمنة لله هذه الاستجابة يبدو جدل المجادلين في الله مستنكرا لا يستحق الالتفات، وتبدو حجتهم باطلة فاشلة ليس لها وزن ولا حساب. فتنتهي هذه الفقرة بالفصل في أمرهم، وتركهم لوعيد الله الشديد :
والذين يحاجون في الله. من بعد ما استجيب له. حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد ..
ومن تكون حجته باطلة مغلوبة عند ربه فلا حجة له ولا سلطان. ووراء الهزيمة والبطلان في الأرض الغضب والعذاب الشديد في الآخرة. وهو الجزاء المناسب على اللجاج بالباطل بعد استجابة القلوب الخالصة والجدل المغرض بعد وضوح الحق الصريح.
ثم يبدأ جولة جديدة مع الحقيقة الأولى :
الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان. وما يدريك لعل الساعة قريب. يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق، ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد. الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز. من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها، وما له في الآخرة من نصيب ..
فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل، وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة، وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم، وأقام شرائعه على العدل في الحكم العدل الدقيق. كأنه الميزان توزن به القيم، وتوزن به الحقوق، وتوزن به الأعمال والتصرفات.
[ ص: 3151 ] وينتقل من هذه الحقيقة - حقيقة الكتاب المنزل بالحق والعدل - إلى ذكر الساعة. والمناسبة بين هذا وهذه حاضرة، فالساعة هي موعد الحكم العدل والقول الفصل، والساعة غيب. فمن ذا يدري إن كانت على وشك؟:
وما يدريك لعل الساعة قريب؟ ..
والناس عنها غافلون، وهي منهم قريب، وعندها يكون الحساب القائم على الحق والعدل، الذي لا يهمل فيه شيء ولا يضيع…
ويصور موقف المؤمنين من الساعة وموقف غير المؤمنين :
يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها، والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ..
والذين لا يؤمنون بها لا تحس قلوبهم هولها، ولا تقدر ما ينتظرهم فيها، فلا عجب يستعجلون بها مستهترين؛ لأنهم محجوبون لا يدركون. وأما الذين آمنوا فهم مستيقنون منها، ومن ثم هم يشفقون ويخافون، وينتظرونها بوجل وخشية، وهم يعرفون ما هي حين تكون.
وإنها لحق. وإنهم ليعلمون أنها الحق. وبينهم وبين الحق صلة فهم يعرفون.
ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد ..
فقد أوغلوا في الضلال وأبعدوا، فعسير أن يعودوا بعد الضلال البعيد..
وينتقل من الحديث عن الآخرة والإشفاق منها أو الاستهتار بها إلى الحديث عن الرزق الذي يتفضل الله به على عباده :
الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز ..
وتبدو المناسبة بعيدة في ظاهر الأمر بين هذه الحقيقة وتلك، ولكن الصلة تبدو وثيقة عند قراءة الآية التالية :
من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ..
فالله لطيف بعباده يرزق من يشاء. يرزق الصالح والطالح، والمؤمن والكافر. فهؤلاء البشر أعجز من أن يرزقوا أنفسهم شيئا، وقد وهبهم الله الحياة، وكفل لهم أسبابها الأولية، ولو منع رزقه عن الكافر والفاسق والطالح ما استطاعوا أن يرزقوا أنفسهم، ولماتوا جوعا وعريا وعطشا وعجزا عن أسباب الحياة الأولى. ولما تحققت حكمة الله من إحيائهم وإعطائهم الفرصة ليعملوا في الحياة الدنيا ما يحسب لهم في الآخرة أو عليهم. ومن ثم أخرج الرزق من دائرة الصلاح والطلاح، والإيمان والكفر، وعلقه بأسبابه الموصولة بأوضاع الحياة العامة، واستعدادات الأفراد الخاصة. وجعله فتنة وابتلاء يجزى عليهما الناس يوم الجزاء.