وأقاموا الصلاة ..
وللصلاة في هذا الدين مكانة عظمى، فهي التالية للقاعدة الأولى فيه. قاعدة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهي صورة الاستجابة الأولى لله. وهي الصلة بين العبد وربه. وهي مظهر المساواة بين العباد في الصف الواحد ركعا سجدا، لا يرتفع رأس على رأس، ولا تتقدم رجل على رجل!
ولعله من هذا الجانب اتبع إقامة الصلاة بصفة الشورى - قبل أن يذكر الزكاة:
وأمرهم شورى بينهم
والتعبير يجعل أمرهم كله شورى، ليصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة. وهو كما قلنا نص مكي. كان قبل قيام الدولة الإسلامية. فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين. إنه طابع الجماعة الإسلامية في كل حالاتها، ولو كانت الدولة بمعناها الخاص لم تقم فيها بعد.
والواقع أن الدولة في الإسلام ليست سوى إفراز طبيعي للجماعة وخصائصها الذاتية. والجماعة تتضمن الدولة وتنهض وإياها بتحقيق المنهج الإسلامي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية.
ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكرا، وكان مدلوله أوسع وأعمق من محيط الدولة وشؤون الحكم فيها. إنه طابع ذاتي للحياة الإسلامية، وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية. وهي من ألزم صفات القيادة.
أما الشكل الذي تتم به الشورى فليس مصبوبا في قالب حديدي; فهو متروك للصورة الملائمة لكل بيئة وزمان، لتحقيق ذلك الطابع في حياة الجماعة الإسلامية. والنظم الإسلامية كلها ليست أشكالا جامدة، وليست نصوصا حرفية، إنما هي قبل كل شيء روح ينشأ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب، وتكيف الشعور والسلوك بهذه الحقيقة. والبحث في أشكال الأنظمة الإسلامية دون الاهتمام بحقيقة الإيمان الكامنة وراءها لا يؤدي إلى شيء.. وليس هذا كلاما عائما غير مضبوط كما قد يبدو لأول وهلة لمن لا يعرف حقيقة الإيمان بالعقيدة الإسلامية. فهذه العقيدة - في أصولها الاعتقادية البحتة، وقبل أي التفات إلى الأنظمة فيها - تحوي حقائق نفسية وعقلية هي في ذاتها شيء له وجود وفاعلية وأثر في الكيان البشري، يهيئ لإفراز أشكال معينة من النظم وأوضاع معينة في الحياة البشرية; ثم تجيء النصوص بعد ذلك مشيرة إلى هذه الأشكال والأوضاع، لمجرد تنظيمها لا لخلقها
[ ص: 3166 ] وإنشائها. ولكي يقوم أي شكل من أشكال النظم الإسلامية، لا بد قبلها من وجود مسلمين، ومن وجود إيمان ذي فاعلية وأثر. وإلا فكل الأشكال التنظيمية لا تفي بالحاجة، ولا تحقق نظاما يصح وصفه بأنه إسلامي..
ومتى وجد المسلمون حقا، ووجد الإيمان في قلوبهم بحقيقته، نشأ النظام الإسلامي نشأة ذاتية، وقامت صورة منه تناسب هؤلاء المسلمين وبيئتهم وأحوالهم كلها; وتحقق المبادئ الإسلامية الكلية خير تحقيق.
ومما رزقناهم ينفقون ..
وهو نص مبكر كذلك على تحديد فرائض الزكاة التي حددت في السنة الثانية من الهجرة. ولكن الإنفاق العام من رزق الله كان توجيها مبكرا في حياة الجماعة الإسلامية. بل إنه ولد مع مولدها.
ولا بد للدعوة من الإنفاق. لا بد منه تطهيرا للقلب من الشح، واستعلاء على حب الملك، وثقة بما عند الله. وكل هذه ضرورية لاستكمال معنى الإيمان. ثم إنها ضرورية كذلك لحياة الجماعة. فالدعوة كفاح. ولا بد من التكافل في هذا الكفاح وجرائره وآثاره. وأحيانا يكون هذا التكافل كاملا بحيث لا يبقى لأحد مال متميز. كما حدثفي أول العهد بهجرة المهاجرين من
مكة ، ونزولهم على إخوانهم في المدينة. حتى إذا هدأت حدة الظروف وضعت الأسس الدائمة للإنفاق في الزكاة.
وعلى أية حال فالإنفاق في عمومه سمة من سمات الجماعة المؤمنة المختارة للقيادة بهذه الصفات..
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون .
وذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة كما سلف. فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة. صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم. وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة. لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل; وهي عزيزة بالله.
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين .. فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان. وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في
مكة ، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من
العرب خاصة أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصيلة.
ولقد كانت هنالك أسباب خاصة لاختيار أسلوب المسالمة والصبر في العهد المكي:
منها أن إيذاء المسلمين الأوائل وفتنتهم عن دينهم لم تكن تصدر من هيئة مسيطرة على الجماعة. فالوضع السياسي والاجتماعي في الجزيرة كان وضعا قبليا مخلخلا. ومن ثم كان الذين يتولون إيذاء الفرد المسلم هم خاصة أهله إن كان ذا نسب، ولم يكن أحد غير خاصة أهله يجرؤ على إيذائه - ولم يقع إلا في الندرة إن وقع اعتداء جماعي على فرد مسلم أو على المسلمين كجماعة - كما كان السادة يؤذون مواليهم إلى أن يشتريهم المسلمون ويعتقوهم فلا يجرؤ أحد على إيذائهم غالبا. ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحب أن تقع معركة في كل بيت بين الفرد المسلم من هذا البيت والذين لم يسلموا بعد. والمسالمة كانت أقرب إلى إلانة القلوب من المخاشنة.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة نخوة تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى. واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم، كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين. وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه. فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة، ونقضت هذا العهد الجائر.
ومنها أن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام. والتوازن
[ ص: 3167 ] في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف، وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب. مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وعلى كل مغنم. ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع
منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية، وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق.
فهذه الاعتبارات وأمثالها قد اقتضت سياسة المسالمة والصبر في
مكة . مع تقرير الطابع الأساسي الدائم للجماعة المسلمة:
والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ..
ويؤكد هذه القاعدة بوصفها قاعدة عامة في الحياة:
وجزاء سيئة سيئة مثلها ..
فهذا هو الأصل في الجزاء. مقابلة السيئة بالسيئة، كي لا يتبجح الشر ويطغى، حين لا يجد رادعا يكفه عن الإفساد في الأرض فيمضي وهو آمن مطمئن!
ذلك مع استحباب العفو ابتغاء أجر الله وإصلاح النفس من الغيظ، وإصلاح الجماعة من الأحقاد. وهو استثناء من تلك القاعدة. والعفو لا يكون إلا مع المقدرة على جزاء السيئة بالسيئة. فهنا يكون للعفو وزنه ووقعه في إصلاح المعتدي والمسامح سواء. فالمعتدي حين يشعر بأن العفو جاء سماحة ولم يجئ ضعفا يخجل ويستحيي، ويحس بأن خصمه الذي عفا هو الأعلى. والقوي الذي يعفو تصفو نفسه وتعلو. فالعفو عندئذ خير لهذا وهذا. ولا كذلك عند الضعف والعجز. وما يجوز أن يذكر العفو عند العجز. فليس له ثمة وجود. وهو شر يطمع المعتدي ويذل المعتدى عليه، وينشر في الأرض الفساد!
إنه لا يحب الظالمين ..
وهذا توكيد للقاعدة الأولى:
وجزاء سيئة سيئة مثلها من ناحية. وإيحاء بالوقوف عند رد المساءة أو العفو عنها. وعدم تجاوز الحد في الاعتداء، من ناحية أخرى.
وتوكيد آخر أكثر تفصيلا:
ولمن انتصر بعد ظلمه، فأولئك ما عليهم من سبيل. إنما السبيل على الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق. أولئك لهم عذاب أليم ..
فالذي ينتصر بعد ظلمه، ويجزي السيئة بالسيئة، ولا يعتدي، ليس عليه من جناح. وهو يزاول حقه المشروع. فما لأحد عليه من سلطان. ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد. إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق. فإن الأرض لا تصلح وفيهاظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه; وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه. والله يتوعد الظالم الباغي بالعذاب الأليم. ولكن على الناس كذلك أن يقفوا له ويأخذوا عليه الطريق.
ثم يعود إلى التوازن والاعتدال وضبط النفس والصبر والسماحة في الحالات الفردية، وعند المقدرة على الدفع كما هو مفهوم; وحين يكون الصبر والسماحة استعلاء لا استخذاء; وتجملا لا ذلا:
ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ..
ومجموعة النصوص في هذه القضية تصور الاعتدال والتوازن بين الاتجاهين; وتحرص على صيانة النفس من الحقد والغيظ، ومن الضعف والذل، ومن الجور والبغي. وتعلقها بالله ورضاه في كل حال. وتجعل الصبر
[ ص: 3168 ] زاد الرحلة الأصيل.
ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعا مميزا للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون..
وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين، وما ينتظرهم من ذل وخسران:
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون: هل إلى مرد من سبيل؟ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل، ينظرون من طرف خفي، وقال الذين آمنوا: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين في عذاب مقيم، وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله، ومن يضلل الله فما له من سبيل ..
إن قضاء الله لا يرد، ومشيئته لا معقب عليها
ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده .. فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله.. والذي يعرض منه مشهدا في بقية الآية:
وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون: هل إلى مرد من سبيل، وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل، ينظرون من طرف خفي ..
والظالمون كانوا طغاة بغاة، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء. إنهم يرون العذاب، فتتهاوى كبرياؤهم. ويتساءلون في انكسار:
هل إلى مرد من سبيل؟ في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص. وهم يعرضون على النار
خاشعين لا من التقوى ولا من الحياء، ولكن من الذل والهوان! وهم يعرضون منكسي الأبصار، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار:
ينظرون من طرف خفي .. وهي صورة شاخصة ذليلة.
وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف; فهم ينطقون ويقررون:
وقال الذين آمنوا: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة .. وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون: هل إلى مرد من سبيل؟
ويجيء التعليق العام على المشهد بيانا لمآل هؤلاء المعروضين على النار:
ألا إن الظالمين في عذاب مقيم. وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله. ومن يضلل الله فما له من سبيل ..
فقد عدم النصير، وقد أغلق السبيل.
وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم، ولا نصيرا ينكر مصيرهم الأليم، ويوجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير; فما عليه إلا البلاغ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل:
استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله، ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير. فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ ..
[ ص: 3169 ] ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند، ويعرض نفسه للأذى والعذاب، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى; وهو رقيق الاحتمال، يستطار بالنعمة، ويجزع من الشدة، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق:
وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور ..
ويعقب على هذا بأن نصيب هذا الإنسان من السراء والضراء ومن العطاء والحرمان كله بيد الله. فما لهذا الإنسان المحب للخير الجزوع من الشر، يبعد عن الله المالك لأمره في جميع الأحوال:
لله ملك السماوات والأرض، يخلق ما يشاء، يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور. أو يزوجهم ذكرانا وإناثا، ويجعل من يشاء عقيما، إنه عليم قدير ..
والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان; وهي قريبة من نفس الإنسان; والنفس شديدة الحساسية بها. فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق. وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه. فهذه تكملة في الرزق بالذرية. وهي رزق من عند الله كالمال.
والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم لمناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام. وكذلك ذكر:
يخلق ما يشاء .. فهي توكيد للإحياء النفسي المطلوب في هذا الموضع. ورد الإنسان، المحب للخير إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسر وما يسوء ومن عطاء أو حرمان.
ثم يفصل حالات العطاء والحرمان: فهو يهب لمن يشاء إناثا (وهم كانوا يكرهون الإناث) ويهب لمن يشاء الذكور. ويهب لمن يشاء أزواجا من هؤلاء وهؤلاء. ويحرم من يشاء فيجعله عقيما (والعقم يكرهه كل الناس) .. وكل هذه الأحوال خاضعة لمشيئة الله. لا يتدخل فيها أحد سواه. وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته:
إنه عليم قدير ..