صفحة جزء
وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ..

متاع زائل، لا يتجاوز حدود هذه الدنيا. ومتاع زهيد يليق بالحياة الدنيا.

والآخرة عند ربك للمتقين ..

وهؤلاء هم المكرمون عند الله بتقواهم; فهو يدخرلهم ما هو أكرم وأبقى; ويؤثرهم بما هو أقوم وأغلى. ويميزهم على من يكفر بالرحمن، ممن يبذل لهم من ذلك المتاع الرخيص ما يبذله للحيوان!

وإن عرض الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيادي الأبرار منه خالية; أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء. والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه; ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار.

وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئا من عرض هذه الحياة الدنيا; ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة، أو بما يملكون من مال. يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله. وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله. فهي لا تدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى، ولا تشي باختيار!

وهكذا يضع القرآن الأمور في نصابها; ويكشف عن سنن الله في توزيع الأرزاق في الدنيا والآخرة; ويقرر حقيقة القيم كما هي عند الله ثابتة. وذلك في صدد الرد على المعترضين على رسالة محمد واختياره. واطراح العظماء المتسلطين!

وهكذا يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير; ولا تؤثر فيها تطورات الحياة، واختلاف النظم، وتعدد المذاهب، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها; ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي، الذي يجمع بين الثبات والتغير، في صلب الحياة; وفي أطوار الحياة ويحسبون أن التطور والتغير، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور; وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته! [ ص: 3189 ] فأما نحن - أصحاب العقيدة الإسلامية - فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات.. وهذا التلازم مطرد في غير هذا المثال .

ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله; وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله، ولا يشير إلى فلاح; وأن الآخرة عند ربك للمتقين، استطرد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض، وهم عمي عن ذكر الله، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين:

ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين. فبئس القرين. ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ..

والعشى كلال البصر عن الرؤية، وغالبا ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه، أو عند دخول الظلام، وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله. وقد يكون ذلك لمرض خاص. والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير.

ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ..

وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك. واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه، فيلزمه، ويصبح له قرين سوء يوسوس له، ويزين له السوء. وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب، كما قضاه الله في علمه.

ووظيفة قرناء السوء من الشياطين أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله، بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون:

وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ..

وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرين. أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة; ثم لا يدعه يفيق، أو يتبين الضلال فيثوب; إنما يوهمه أنه سائر في الطريق القاصد القويم! حتى يصطدم بالمصير الأليم.

والتعبير بالفعل المضارع: ليصدونهم .. ويحسبون .. يصور العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار; يراها الآخرون، ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ وهم لا يشعرون.

ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون:

حتى إذا جاءنا قال: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين. فبئس القرين !

وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة. ويطوى شريط الحياة السادرة، ويصل العمي /(الذين يعشون عن ذكر الرحمن) إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار. هنا يفيقون كما يفيق المخمور، ويفتحون أعينهم بعد العشى والكلال وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء الذي زين له الضلال، وأوهمه أنه الهدى! [ ص: 3190 ] وقاده في طريق الهلاك، وهو يلوح له بالسلامة! ينظر إليه في حنق يقول: يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين ! يا ليته لم يكن بيننا لقاء. على هذا البعد السحيق!

ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله: فبئس القرين !

ونسمع كلمة التيئيس الساحقة لهذا وذاك عند إسدال الستار على الجميع:

ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون !

فالعذاب كامل لا تخففه الشركة، ولا يتقاسمه الشركاء فيهون!

عندئذ ينصرف عن هؤلاء، في مشهدهم البائس الكئيب; ويدعهم يتلاومون ويتشاتمون. ويتجه بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسليه عن هذا المصير البائس الذي انتهى إليه فريق من البشر; ويعزيه عن إعراضهم عنه وكفرهم بما جاء به; ويثبته على الحق الذي أوحى إليه; وهو الحق الثابت المطرد من قديم، في رسالة كل رسول:

أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين؟ فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون. فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم. وإنه لذكر لك ولقومك، وسوف تسألون. واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا: أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟ ..

وهذا المعنى يتكرر في القرآن تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبيانا لطبيعة الهدى والضلال، ورجعهما إلى مشيئة الله وتقديره وحده ;وإخراجهما من نطاق وظيفة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - ووضع حدود فاصلة بين مجال القدرة الإنسانية المحدودة في أعلى درجاتها عند مرتقى النبوة، ومجال القدرة الإلهية الطليقة; وتثبيت معنى التوحيد في صورة من أدق صوره، وفي موضع من ألطف مواضعه:

أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين ..

وهم ليسوا صما ولا عميا، ولكنهم كالصم والعمي في الضلال، وعدم الانتفاع بالدعاء إلى الهدى، والإشارة إلى دلائله. ووظيفة الرسول أن يسمع من يسمع، وأن يهدي من يبصر. فإذا هم عطلوا جوارحهم، وطمسوا منافذ قلوبهم وأرواحهم. فما للرسول إلى هداهم من سبيل; ولا عليه من ضلالهم، فقد قام بواجبه الذي يطيق.

والله يتولى الأمر بعد أداء الرسول لواجبه المحدود:

فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون. أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون ..

والأمر لا يخرج عن هذين الحالين. فإذا ذهب الله بنبيه فسيتولى هو الانتقام من مكذبيه. وإذا قدر له الحياة حتى يتحقق ما أنذرهم به، فالله قادر على تحقيق النذير، وهم ليسوا له بمعجزين. ومرد الأمر إلى مشيئة الله وقدرته في الحالين، وهو صاحب الدعوة. وما الرسول إلا رسول.

التالي السابق


الخدمات العلمية