ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم (16)
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم (17)
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم (18)
فاعلم أنه لا إله إلا الله [ ص: 3293 ] واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم (19)
ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم (20)
طاعة وقول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم (21)
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (22)
أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم (23)
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (24)
إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم (25)
ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم (26)
فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم (27)
ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم (28)
أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29)
ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30)
ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (31)
.هذه الجولة مع المنافقين، وموقفهم إزاء شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإزاء القرآن. ثم موقفهم من الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين لإعلاء كلمة الله. وأخيرا موقفهم من اليهود وتآمرهم معهم سرا للإيقاع بالإسلام والمسلمين.
وحركة النفاق حركة مدنية، لم يكن لها وجود في
مكة، لأنه لم يكن هناك ما يدعو إليها. فالمسلمون في
مكة كانوا في موقف المضطهد، الذي لا يحتاج أحد أن ينافقه! فلما أعز الله الإسلام والمسلمين
بالأوس والخزرج في
المدينة، وانتشاره في
المدينة، وانتشاره في العشائر والبيوت بحيث لم يبق بيت إلا دخله الإسلام، اضطر ناس ممن كرهوا
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وللإسلام أن يعز ويستعلي، ولم يملكوا في الوقت ذاته أن يجهروا بالعداوة، اضطروا إلى التظاهر بالإسلام على كره. وهم يضمرون الحقد والبغضاء. ويتربصون بالرسول وأصحابه الدوائر. وعلى رأسهم
عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق المعروف.
وكان وجود اليهود في
المدينة وتمتعهم فيها بقوة عسكرية وقوة اقتصادية وقوة تنظيمية في أول العهد المدني. وكراهيتهم كذلك لظهور
محمد - صلى الله عليه وسلم - ودينه وأتباعه. كان وجود اليهود على هذا الوضع مشجعا للمنافقين. وسرعان ما جمعتهم البغضاء والحقد فأخذوا في حبك المؤامرات ودس الدسائس في كل
[ ص: 3294 ] مناسبة تعرض. فإن كان المسلمون في شدة ظهروا بعدائهم وجهروا ببغضائهم; وإذا كانوا في رخاء ظلت الدسائس سرية والمكايد في الظلام! وكانوا إلى منتصف العهد المدني يؤلفون خطرا حقيقيا على الإسلام والمسلمين.
وقد تواتر ذكر المنافقين، ووصف دسائسهم، والتنديد بمؤامراتهم وأخلاقهم في السور المدنية; كما تكرر ذكر اتصالهم باليهود، وتلقيهم عنهم، واشتراكهم معهم في بعض المؤامرات المحبوكة. وهذا أحد المواضع التي وردت فيها الإشارة إلى المنافقين، والإشارة كذلك إلى اليهود.
ومنهم من يستمع إليك، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفا؟ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم ..
ولفظة:
ومنهم تحتمل أن تكون إشارة للذين كفروا الذين كان يدور الحديث عنهم في الجولة السابقة في السورة: باعتبار أن المنافقين في الحقيقة فرقة من الكفار مستورة الظاهر، والله يتحدث عنها بحقيقتها في هذه الآية.
كما تحتمل أن تكون إشارة للمسلمين باعتبار أن المنافقين مندمجون فيهم، متظاهرون بالإسلام معهم. وقد كانوا يعاملون معاملة المسلمين بحسب ظاهرهم، كما هو منهج الإسلام في معاملة الناس.
ولكنهم في كلتا الحالتين هم المنافقون كما تدل عليه صفتهم في الآية وفعلهم، وكما يدل السياق في هذه الجولة من السورة، والحديث فيها عن المنافقين.
وسؤالهم ذاك بعد استماعهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستماع معناه السماع باهتمام - يدل على أنهم كانوا يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقلوبهم لاهية غافلة. أو مطموسة مغلقة. كما أنه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم إذ يريدون أن يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم: إن ما يقوله
محمد لا يفهم، أو لا يعني شيئا يفهم. فهاهم أولاء مع استماعهم له، لا يجدون له فحوى ولا يمسكون منه بشيء! كذلك قد يعنون بهذا السؤال السخرية من احتفال أهل العلم بكل ما يقوله
محمد - صلى الله عليه وسلم - وحرصهم على استيعاب معانيه وحفظ ألفاظه - كما كان حال الصحابة رضوان الله عليهم مع كل كلمة يتلفظ بها الرسول الكريم - فهم يسألونهم أن يعيدوا ألفاظه التي سمعوها على سبيل السخرية الظاهرة أو الخفية.. وكلها احتمالات تدل على اللؤم والخبث والانطماس والهوى الدفين:
أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم ..
ذلك حال المنافقين. فأما حال المهتدين فهو على النقيض:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ..
وترتيب الوقائع في الآية يستوقف النظر. فالذين اهتدوا بدأوا هم بالاهتداء، فكافأهم الله بزيادة الهدى، وكافأهم بما هو أعمق وأكمل:
وآتاهم تقواهم .. والتقوى حالة في القلب تجعله أبدا واجفا من هيبة الله، شاعرا برقابته، خائفا من غضبه، متطلعا إلى رضاه، متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها.. هذه الحساسية المرهفة هي التقوى.. وهي مكافأة يؤتيها الله من يشاء من عباده، حين يهتدون هم ويرغبون في الوصول إلى رضى الله.
والهدى والتقوى والحساسية حالة تقابل حالة النفاق والانطماس والغفلة في الآية السابقة.
[ ص: 3295 ] ومن ثم يعود بعد هذه اللفتة إلى الحديث عن أولئك المنافقين المطموسين الغافلين، الذين يخرجون من مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعوا مما قال شيئا ينفعهم ويهديهم. ويستجيش قلوبهم للتقوى، ويذكرهم بما ينتظر الناس من حساب وجزاء:
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة؟ فقد جاء أشراطها. فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم؟ .
وهي جذبة قوية تخرج الغافلين من الغفلة بعنف، كما لو أخذت بتلابيب مخمور وهززته هزا! ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون الذين يدخلون مجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويخرجون منها، غير واعين، ولا حافظين، ولا متذكرين؟ ماذا ينتظرون؟
فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة؟ .. فتفجأهم وهم سادرون غارون غافلون.
هل ينظرون إلا الساعة؟
فقد جاء أشراطها . ووجدت علاماتها. والرسالة الأخيرة أضخم هذه العلامات، فهي إيذان بأنها النذارة الأخيرة قرب الأجل المضروب. وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=692642 "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها. وإذا كان الزمن يلوح ممتدا منذ هذه الرسالة الأخيرة; فإن أيام الله غير أيامنا. ولكنها في حساب الله قد جاءت الأشراط الأولى; وما عاد لعاقل أن يغفل حتى تأخذه الساعة بغتة حيث لا يملك صحوا ولا ذكرا:
فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم؟ ..
إنها الهزة القوية العنيفة التي تخرج الغافلين من غفلتهم; والتي تتفق كذلك مع طابع السورة العنيف.
ثم يتجه الخطاب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المهتدين المتقين المتطلعين; ليأخذوا طريقا آخر. طريق العلم والمعرفة والذكر والاستغفار، والشعور برقابة الله وعلمه الشامل المحيط; ويعيشوا بهذه الحساسية يرتقبون الساعة وهم حذرون متأهبون:
فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم ..
وهو التوجيه إلى تذكر الحقيقة الأولى التي يقوم عليها أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه:
فاعلم أنه لا إله إلا الله ..
وعلى أساس العلم بهذه الحقيقة واستحضارها في الضمير تبدأ التوجيهات الأخرى:
واستغفر لذنبك ..
وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. ولكن هذا واجب العبد المؤمن الشاعر الحساس الذي يشعر أبدا بتقصيره مهما جهد; ويشعر - وقد غفر له - أن الاستغفار ذكر وشكر على الغفران. ثم هو التلقين المستمر لمن خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممن يعرفون منزلته عند ربه; ويرونه يوجه إلى الذكر والاستغفار لنفسه. ثم للمؤمنين والمؤمنات. وهو المستجاب الدعوة عند ربه. فيشعرون بنعمة الله عليهم بهذا الرسول الكريم. وبفضل الله عليهم وهو يوجهه لأن يستغفر لهم، ليغفر لهم!
واللمسة الأخيرة في هذا التوجيه:
[ ص: 3296 ] والله يعلم متقلبكم ومثواكم ..
حيث يشعر القلب المؤمن بالطمأنينة وبالخوف جميعا. الطمأنينة وهو في رعاية الله حيثما تقلب أو ثوى. والخوف من هذا الموقف الذي يحيط به علم الله ويتعقبه في كل حالاته، ويطلع على سره ونجواه..
إنها التربية. التربية باليقظة الدائمة والحساسية المرهفة، والتطلع والحذر والانتظار..
وينتقل السياق إلى تصوير موقف المنافقين من الجهاد، وما يعتمل في نفوسهم من جبن وخور وذعر وهلع عند مواجهة هذا التكليف، ويكشف دخيلتهم في هذا الأمر، كما يكشف لهم ما ينتظرهم لو ظلوا على هذا النفاق، ولم يخلصوا ويستجيبوا ويصدقوا الله عند ما يعزم الأمر ويتحتم الجهاد:
ويقول الذين آمنوا: لولا نزلت سورة. فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت، فأولى لهم طاعة وقول معروف، فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم! أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ ..
وتطلع الذين آمنوا إلى تنزيل سورة: إما أن يكون مجرد تعبير عن شوقهم إلى سورة جديدة من هذا القرآن الذي يحبونه، ويجدون في كل سورة منه زادا جديدا حبيبا. وإما أن يكون تطلعا إلى سورة تبين أمرا من أمور الجهاد، وتفصل في قضية من قضايا القتال تشغل بالهم. فيقولون:
لولا نزلت سورة! ..
فإذا أنزلت سورة محكمة .. فاصلة بينة لا تحتمل تأويلا
وذكر فيها القتال .. أي: الأمر به. أو بيان حكم المتخلفين عنه، أو أي شأن من شؤونه، إذا بأولئك
الذين في قلوبهم مرض .. وهو وصف من أوصاف المنافقين.. يفقدون تماسكهم، ويسقط عنهم ستار الرياء الذي يتسترون به، وينكشف جزعهم وضعف نفوسهم من مواجهة هذا التكليف، ويبدون في حالة تزري بالرجال، يصورها التعبير القرآني المبدع صورة فريدة كأنها معروضة للأنظار:
رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت ..
وهو تعبير لا تمكن محاكاته، ولا ترجمته إلى أي عبارة أخرى. وهو يرسم الخوف إلى حد الهلع. والضعف إلى حد الرعشة. والتخاذل إلى حد الغشية! ويبقى بعد ذلك متفردا حافلا بالظلال والحركة التي تشغف الخيال! وهي صورة خالدة لكل نفس خوارة لا تعتصم بإيمان، ولا بفطرة صادقة، ولا بحياء تتجمل به أمام الخطر. وهي هي طبيعة المرض والنفاق!