هذه السورة مدنية، نزلت في السنة السادسة من الهجرة، عقب صلح الحديبية; وهي تتناول هذا الحادث الخطير وملابساته; وتصور حال الجماعة المسلمة وما حولها في إبانه: فبين وقت نزولها ووقت نزول سورة " محمد " التي تسبقها في ترتيب المصحف، نحو من ثلاث سنوات، تمت فيها تغيرات هامة وخطيرة في أحوال الجماعة المسلمة في المدينة. تغيرات في موقفها وموقف المناوئين لها، وتغيرات أهم في حالتها النفسية وصفتها الإيمانية، واستوائها على المنهج الإيماني في إدراك ونضج عميق.
وقبل أن نتحدث عن السورة وجوها ودلالتها يحسن أن نمر بصورة للحادث الذي نزلت بصدده. لنعيش في الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه، وهم يتلقون هذا التنزيل الكريم:
لقد أري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منامه أنه يدخل الكعبة هو والمسلمون محلقين رؤوسهم ومقصرين. وكان المشركون قد منعوهم منذ الهجرة من دخول مكة، حتى في الأشهر الحرم التي يعظمها العرب كلهم في الجاهلية، ويضعون السلاح فيها; ويستعظمون القتال في أيامها، والصد عن المسجد الحرام. حتى أصحاب الثارات كانوا يتجمعون في ظلال هذه الحرمة، ويلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فلا يرفع في وجهه سيفا، ولا يصده عن البيت المحرم. ولكنهم خالفوا عن تقاليدهم الراسخة في هذا الشأن; وصدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين معه طوال السنوات الست التي تلت الهجرة. حتى كان العام السادس الذي أري [ ص: 3307 ] فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الرؤيا. وحدث بها أصحابه - رضوان الله عليهم - فاستبشروا بها وفرحوا.
ورواية nindex.php?page=showalam&ids=16493ابن هشام لوقائع الحديبية هي أوفى مصدر نستند إليه في تصورها. وهي في جملتها تتفق مع رواية nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري ورواية الإمام nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد ومع تلخيص ابن حزم في جوامع السيرة وغيرهم.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة، وحمله على بعير له يقال له: الثعلب. ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش، فخلوا سبيله حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق: وحدثني بعض من لا أتهم، عن nindex.php?page=showalam&ids=16584عكرمة مولى ابن عباس (عن nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس) أن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم، أو خمسين رجلا، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا. فأخذوا أخذا، فأتي بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعفا عنهم، وخلى سبيلهم. وقد كانوا رموا في عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجارة والنبل.
ثم دعا nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له. فقال: يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي [ ص: 3310 ] عليها. ولكني أدلك على رجل أعز بها مني. nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان، فبعثه إلى nindex.php?page=showalam&ids=12026أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق: فخرج nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان إلى مكة، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص، حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها; فحمله بين يديه، ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانطلق nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان حتى أتى nindex.php?page=showalam&ids=12026أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أرسله به; فقالوا nindex.php?page=showalam&ids=7لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين أن nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان قد قتل.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال - حين بلغه أن nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان قد قتل - : "لا نبرح حتى نناجز القوم". فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الموت. وكان nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يبايعنا على الموت، ولكن بايعنا على ألا نفر. فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة. فكان nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله يقول: والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته قد ضبأ إليها ، يستتر بها من الناس. ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الذي ذكر من أمر nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان باطل.
قال nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري في حديثه.. ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجهه ذلك قافلا. حتى إذا كان بين مكة والمدينة نزلت سورة الفتح.
هذا هو الجو الذي نزلت فيه السورة. الجو الذي اطمأنت فيه نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إلهام ربه، فتجرد من كل إرادة إلا ما يوحيه هذا الإلهام العلوي الصادق; ومضى يستلهم هذا الإيحاء في كل خطوة وفي كل حركة، لا يستفزه عنه مستفز، سواء من المشركين أو من أصحابه الذين لم تطمئن نفوسهم في أول الأمر لقبول استفزاز المشركين وحميتهم الجاهلية. ثم أنزل الله السكينة في قلوبهم، ففاءوا إلى الرضى واليقين والقبول الخالص العميق; كإخوانهم الذين كانوا على هذه الحال منذ أول الأمر، شأن nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق أبي بكر الذي لم تفقد روحه لحظة واحدة صلتها الداخلية المباشرة بروح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ثم [ ص: 3313 ] بقيت على اطمئنانها دائما، ولم تفارقها الطمأنينة أبدا.