صفحة جزء
واعلموا أن فيكم رسول الله ..

وهي حقيقة تتصور بسهولة لأنها وقعت ووجدت. ولكنها عند التدبر تبدو هائلة لا تكاد تتصور! وهل من اليسير أن يتصور الإنسان أن تتصل السماء بالأرض صلة دائمة حية مشهودة; فتقول السماء للأرض; [ ص: 3342 ] وتخبر أهلها عن حالهم وجهرهم وسرهم، وتقوم خطاهم أولا بأول، وتشير عليهم في خاصة أنفسهم وشؤونهم. ويفعل أحدهم الفعلة ويقول أحدهم القولة، ويسر أحدهم الخالجة; فإذا السماء تطلع، وإذا الله - جل جلاله - ينبئ رسوله بما وقع، ويوجهه لما يفعل وما يقول في هذا الذي وقع.. إنه لأمر. وإنه لنبأ عظيم. وإنها لحقيقة هائلة. قد لا يحس بضخامتها من يجدها بين يديه. ومن ثم كان هذا التنبيه لوجودها بهذا الأسلوب: واعلموا أن فيكم رسول الله .. اعلموا هذا وقدروه حق قدره، فهو أمر عظيم.

ومن مقتضيات العلم بهذا الأمر العظيم أن لا يقدموا بين يدي الله ورسوله. ولكنه يزيد هذا التوجيه إيضاحا وقوة، وهو يخبرهم أن تدبير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بوحي الله أو إلهامه ، فيه الخير لهم والرحمة واليسر. وأنه لو أطاعهم فيما يعن لهم أنه خير لعنتوا وشق عليهم الأمر. فالله أعرف منهم بما هو خير لهم، ورسوله رحمة لهم فيما يدبر لهم ويختار:

لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ..

وفي هذا إيحاء لهم بأن يتركوا أمرهم لله ورسوله، وأن يدخلوا في السلم كافة، ويستسلموا لقدر الله وتدبيره، ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه.

ثم يوجههم إلى نعمة الإيمان الذي هداهم إليه، وحرك قلوبهم لحبه، وكشف لهم عن جماله وفضله، وعلق أرواحهم به وكره إليهم الكفر والفسوق والمعصية، وكان هذا كله من رحمته وفيضه:

ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان. أولئك هم الراشدون. فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ..

واختيار الله لفريق من عباده، ليشرح صدورهم للإيمان، ويحرك قلوبهم إليه، ويزينه لهم فتهفو إليه أرواحهم، وتدرك ما فيه من جمال وخير.. هذا الاختيار فضل من الله ونعمة، دونها كل فضل وكل نعمة. حتى نعمة الوجود والحياة أصلا، تبدو في حقيقتها أقل من نعمة الإيمان وأدنى! وسيأتي قوله تعالى: بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان فنفصل القول إن شاء الله في هذه المنة.

والذي يستوقف النظر هنا هو تذكيرهم بأن الله هو الذي أراد بهم هذا الخير، وهو الذي خلص قلوبهم من ذلك الشر: الكفر والفسوق والعصيان. وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلا منه ونعمة. وأن ذلك كله كان عن علم منه وحكمة.. وفي تقرير هذه الحقيقة إيحاء لهم كذلك بالاستسلام لتوجيه الله وتدبيره، والاطمئنان إلى ما وراءه من خير عليهم وبركة، وترك الاقتراح والاستعجال والاندفاع فيما قد يظنونه خيرا لهم; قبل أن يختار لهم الله. فالله يختار لهم الخير، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، يأخذ بيدهم إلى هذا الخير. وهذا هو التوجيه المقصود في التعقيب.

وإن الإنسان ليعجل، وهو لا يدري ما وراء خطوته. وإن الإنسان ليقترح لنفسه ولغيره، وهو لا يعرف ما الخير وما الشر فيما يقترح. ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا . ولو استسلم لله، ودخل في السلم كافة، ورضي اختيار الله له، واطمأن إلى أن اختيار الله أفضل من اختياره، وأرحم له وأعود عليه بالخير. لاستراح وسكن. ولأمضى هذه الرحلة القصيرة على هذا الكوكب في طمأنينة ورضى.. ولكن هذا كذلك منة من الله وفضل يعطيه من يشاء.

وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما. فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى [ ص: 3343 ] تفيء إلى أمر الله. فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا. إن الله يحب المقسطين. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون

..

وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك، تحت النزوات والاندفاعات. تأتي تعقيبا على تبين خبر الفاسق، وعدم العجلة والاندفاع وراء الحمية والحماسة، قبل التثبت والاستيقان.

وسواء كان نزول هذه الآية بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات، أم كان تشريعا لتلافي مثل هذه الحالة، فهو يمثل قاعدة عامة محكمة لصيانة الجماعة الإسلامية من التفكك والتفرق. ثم لإقرار الحق والعدل والصلاح. والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.

والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين. ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.

وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين. فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله. وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدى إلى الخصام والقتال. فإذا تم قبول البغاة لحكم الله، قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة لله وطلبا لرضاه.. إن الله يحب المقسطين ..

ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم، والتي جمعتهم بعد تفرق، وألفت بينهم بعد خصام; وتذكيرهم بتقوى الله، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه:

إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم، واتقوا الله لعلكم ترحمون ..

ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه; وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة. وهو إجراء صارم وحازم كذلك.

ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه، وألا يقتل أسير، وألا يتعقب مدبر ترك المعركة، وألقى السلاح، ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة. لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم، وإنما هو ردهم إلى الصف، وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية.

والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة، وأنه إذا بويع لإمام، وجب قتل الثاني، واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام. وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي الله عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين; وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان الله عليهم. وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي الله عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة. وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص: "ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه فاستجازوا القعود عنه لذلك".. والاحتمال الأول أرجح، تدل عليه بعض أقوالهم المروية. كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام.

[ ص: 3344 ] ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين، وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد، إذا خرج هؤلاء البغاة عليه. أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه. وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية، بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله. وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال.

وواضح أن هذا النظام، نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله، نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق. وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الله الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلق به نقص أو قصور.. ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج، وتكبو وتتعثر. وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم!

يا أيها الذين آمنوا، لا يسخر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء، عسى أن يكن خيرا منهن. ولا تلمزوا أنفسكم، ولا تنابزوا بالألقاب. بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان. ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ..

إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع، ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس. وهي من كرامة المجموع. ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس، لأن الجماعة كلها وحدة، كرامتها واحدة.

والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا . وينهاهم أن يسخر قوم بقوم، أي: رجال برجال، فلعلهم خير منهم عند الله، أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان الله.

وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية، التي يوزن بها الناس. فهناك قيم أخرى، قد تكون خافية عليهم، يعلمها الله، ويزن بها العباد. وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير. والرجل القوي من الرجل الضعيف، والرجل السوي من الرجل المؤوف. وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام. وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم. وذو العصبية من اليتيم ...

وقد تسخر الجميلة من القبيحة، والشابة من العجوز، والمعتدلة من المشوهة، والغنية من الفقيرة.. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس، فميزان الله يرفع ويخفض بغير هذه الموازين!

ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء، بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية، ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها: ولا تلمزوا أنفسكم .. واللمز: العيب. ولكن للفظة جرسا وظلا; فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية!

ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها، ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به - ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها، أحس فيها بحسه المرهف، وقلبه الكريم، بما يزري بأصحابها، أو يصفهم بوصف ذميم.

[ ص: 3345 ] والآية بعد الإيحاء بالقيم الحقيقة في ميزان الله، وبعد استجاشة شعور الأخوة، بل شعور الاندماج في نفس واحدة، تستثير معنى الإيمان، وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم، والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز: بئس الاسم: الفسوق بعد الإيمان . فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلما، والظلم أحد التعبيرات عن الشرك: ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .. وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم.

يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضا. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ فكرهتموه. واتقوا الله، إن الله تواب رحيم ..

فأما هذه الآية فتقيم سياجا آخر في هذا المجتمع الفاضل الكريم، حول حرمات الأشخاص به وكراماتهم وحرياتهم، بينما هي تعلم الناس كيف ينظفون مشاعرهم وضمائرهم، في أسلوب مؤثر عجيب..

وتبدأ - على نسق السورة - بذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا .. ثم تأمرهم باجتناب كثير من الظن، فلا يتركوا نفوسهم نهبا لكل ما يهجس فيها حول الآخرين من ظنون وشبهات وشكوك. وتعلل هذا الأمر: إن بعض الظن إثم . وما دام النهي منصبا على أكثر الظن، والقاعدة أن بعض الظن إثم، فإن إيحاء هذا التعبير للضمير هو اجتناب الظن السيئ أصلا، لأنه لا يدري أي ظنونه تكون إثما!

بهذا يطهر القرآن الضمير من داخله أن يتلوث بالظن السيئ، فيقع في الإثم; ويدعه نقيا بريئا من الهواجس والشكوك، أبيض يكن لإخوانه المودة التي لا يخدشها ظن السوء; والبراءة التي لا تلوثها الريب والشكوك، والطمأنينة التي لا يعكرها القلق والتوقع. وما أروح الحياة في مجتمع بريء من الظنون!

ولكن الأمر لا يقف في الإسلام عند هذا الأفق الكريم الوضيء في تربية الضمائر والقلوب بل إن هذا النص يقيم مبدأ في التعامل، وسياجا حول حقوق الناس الذين يعيشون في مجتمعه النظيف، فلا يؤخذون بظنة، ولا يحاكمون بريبة; ولا يصبح الظن أساسا لمحاكمتهم. بل لا يصح أن يكون أساسا للتحقيق معهم، ولا للتحقيق حولهم. والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا ظننت فلا تحقق".. ومعنى هذا أن يظل الناس أبرياء، مصونة حقوقهم، وحرياتهم، واعتبارهم. حتى يتبين بوضوح أنهم ارتكبوا ما يؤاخذون عليه. ولا يكفي الظن بهم لتعقبهم بغية التحقق من هذا الظن الذي دار حولهم!

فأي مدى من صيانة كرامة الناس وحرياتهم وحقوقهم واعتبارهم ينتهي إليه هذا النص! وأين أقصى ما تتعاجب به أحسن البلاد ديمقراطية وحرية وصيانة لحقوق الإنسان فيها من هذا المدى الذي هتف به القرآن الكريم للذين آمنوا، وقام عليه المجتمع الإسلامي فعلا، وحققه في واقع الحياة، بعد أن حققه في واقع الضمير؟

التالي السابق


الخدمات العلمية