[ ص: 3355 ] (50)
سورة ق مكية
وآياتها خمس وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
ق والقرآن المجيد (1)
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب (2)
أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد (3)
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ (4)
بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج (5)
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج (6)
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج (7)
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب (8)
ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد (9)
والنخل باسقات لها طلع نضيد (10)
رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج (11)
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود (12)
وعاد وفرعون وإخوان لوط (13)
وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد (14)
أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد (15)
ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد (16)
إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17)
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد (18)
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19)
ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20)
وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21)
لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (22)
وقال قرينه هذا ما لدي عتيد (23)
ألقيا في جهنم كل كفار عنيد (24)
مناع للخير معتد مريب (25)
الذي [ ص: 3356 ] جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد (26)
قال .قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد (27)
قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد (28)
ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد (29)
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد (30)
وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد (31)
هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ (32)
من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب (33)
ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود (34)
لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد (35)
وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص (36)
إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (37)
ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب (38)
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب (39)
ومن الليل فسبحه وأدبار السجود (40)
واستمع يوم يناد المناد من مكان قريب (41)
يوم يسمعون الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج (42)
إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير (43)
يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير (44)
نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد (45)
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب بهذه السورة في العيد والجمعة; فيجعلها هي موضوع خطبته ومادتها، في الجماعات الحافلة.. وإن لها لشأنا..
إنها سورة رهيبة، شديدة الوقع بحقائقها، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري، وصورها وظلالها وجرس فواصلها. تأخذ على النفس أقطارها، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها، وتتعقبها في سرها وجهرها، وفي باطنها وظاهرها. تتعقبها برقابة الله، التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد، إلى الممات، إلى البعث، إلى الحشر، إلى الحساب. وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة. تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا. فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا. كل نفس معدود. وكل هاجسة معلومة. وكل لفظ مكتوب. وكل حركة محسوبة. والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة على وساوس القلب، كما هي مضروبة على حركة الجوارح. ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة، المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة، في كل وقت وفي كل حال.
وكل هذه حقائق معلومة. ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة، تروع الحس روعة المفاجأة;
[ ص: 3357 ] وتهز النفس هزا، وترجها رجا، وتثير فيها رعشة الخوف، وروعة الإعجاب، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب!
وذلك كله إلى صور الحياة، وصور الموت، وصور البلى، وصور البعث، وصور الحشر. وإلى إرهاص الساعة في النفس وتوقعها في الحس. وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض، وفي الماء والنبت، وفي الثمر والطلع..
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ..
وإنه ليصعب في مثل هذه السورة التلخيص والتعريف، وحكاية الحقائق والمعاني والصور والظلال، في غير أسلوبها القرآني الذي وردت فيه; وفي غير عبارتها القرآنية التي تشع بذاتها تلك الحقائق والمعاني والصور والظلال، إشعاعا مباشرا للحس والضمير.
فلنأخذ في استعراض السورة بذاتها.. والله المستعان..
ق. والقرآن المجيد. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد. قد علمنا ما تنقص الأرض منهم، وعندنا كتاب حفيظ. بل كذبوا بالحق لما جاءهم، فهم في أمر مريج. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وما لها من فروج. والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد. والنخل باسقات لها طلع نضيد. رزقا للعباد، وأحيينا به بلدة ميتا. كذلك الخروج .
كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود، وعاد وفرعون وإخوان لوط، وأصحاب الأيكة وقوم تبع. كل كذب الرسل فحق وعيد. أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ..
هذا هو المقطع الأول في السورة. وهو يعالج قضية البعث، وإنكار المشركين له، وعجبهم من ذكره والقول به. ولكن القرآن لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده. إنما هو يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلا إلى الحق، ويقوم ما فيها من عوج; ويحاول قبل كل شيء إيقاظ هذه القلوب وهزها لتتفتح على الحقائق الكبيرة في صلب هذا الوجود. ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث. وإنما يحيي قلوبهم لتتفكر هي وتتدبر، ويلمس وجدانهم ليتأثر بالحقائق المباشرة من حوله فيستجيب.. وهو درس يحسن أن ينتفع به من يحاولون علاج القلوب!
وتبدأ السورة بالقسم. القسم بالحرف: "قاف" وبالقرآن المجيد، المؤلف من مثل هذا الحرف. بل إنه هو أول حرف في لفظ "قرآن"..
ولا يذكر المقسم عليه. فهو قسم في ابتداء الكلام، يوحي بذاته باليقظة والاهتمام. فالأمر جلل، والله يبدأ الحديث بالقسم، فهو أمر إذن له خطر. ولعل هذا هو المقصود بهذا الابتداء. إذ يضرب بعده بحرف "بل" عن المقسم عليه - بعد أن أحدث القسم أثره في الحس والقلب - ليبدأ حديثا كأنه جديد عن عجبهم واستنكارهم لما جاءهم به رسولهم في القرآن المجيد من أمر البعث والخروج:
بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، فقال الكافرون: هذا شيء عجيب. أإذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد .
[ ص: 3358 ] بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم. وما في هذا من عجب. بل هو الأمر الطبيعي الذي تتقبله الفطرة السليمة ببساطة وترحيب. الأمر الطبيعي أن يختار الله من الناس واحدا منهم، يحس بإحساسهم، ويشعر بشعورهم، ويتكلم بلغتهم، ويشاركهم حياتهم ونشاطهم، ويدرك دوافعهم وجواذبهم، ويعرف طاقتهم واحتمالهم، فيرسله إليهم لينذرهم ما ينتظرهم إن هم ظلوا فيما هم فيه; ويعلمهم كيف يتجهون الاتجاه الصحيح; ويبلغهم التكاليف التي يفرضها الاتجاه الجديد، وهو معهم أول من يحمل هذه التكاليف.
ولقد عجبوا من الرسالة ذاتها، وعجبوا - بصفة خاصة - من أمر البعث الذي حدثهم عنه هذا المنذر أول ما حدثهم. فقضية البعث قاعدة أساسية في العقيدة الإسلامية. قاعدة تقوم عليها العقيدة ويقوم عليها التصور الكلي لمقتضيات هذه العقيدة. فالمسلم مطلوب منه أن يقوم على الحق ليدفع الباطل، وأن ينهض بالخير ليقضي على الشر، وأن يجعل نشاطه كله في الأرض عبادة لله، بالتوجه في هذا النشاط كله لله. ولا بد من جزاء على العمل. وهذا الجزاء قد لا يتم في رحلة الأرض. فيؤجل للحساب الختامي بعد نهاية الرحلة كلها. فلا بد إذن من عالم آخر، ولا بد إذن من بعث للحساب في العالم الآخر.. وحين ينهار أساس الآخرة في النفس ينهار معه كل تصور لحقيقة هذه العقيدة وتكاليفها; ولا تستقيم هذه النفس على طريق الإسلام أبدا.
ولكن أولئك القوم لم ينظروا للمسألة من هذا الجانب أصلا. إنما نظروا إليها من جانب آخر ساذج شديد السذاجة، بعيد كل البعد عن إدراك حقيقة الحياة والموت، وعن إدراك أي طرف من حقيقة قدرة الله. فقالوا:
أإذا متنا وكنا ترابا؟ ذلك رجع بعيد !
والمسألة إذن في نظرهم هي مسألة استبعاد الحياة بعد الموت والبلى. وهي نظرة ساذجة كما أسلفنا، لأن معجزة الحياة التي حدثت مرة يمكن أن تحدث مرة أخرى. كما أن هذه المعجزة تقع أمامهم في كل لحظة، وتحيط بهم في جنبات الكون كله. وهذا هو الجانب الذي قادهم إليه القرآن في هذه السورة.