غير أننا قبل أن نمضي مع لمسات القرآن وآياته الكونية في معرض الحياة، نقف أمام لمسة البلى والدثور التي تتمثل في حكاية قولهم والتعليق عليه:
أإذا متنا وكنا ترابا ...؟ .. وإذن فالناس يموتون. وإذن فهم يصيرون ترابا. وكل من يقرأ حكاية قول المشركين يلتفت مباشرة إلى ذات نفسه، وإلى غيره من الأحياء حوله. يلتفت ليتصور الموت والبلى والدثور. بل ليحس دبيب البلى في جسده وهو بعد حي فوق التراب! وما كالموت يهز قلب الحي، وليس كالبلى يمسه بالرجفة والارتعاش.
والتعقيب يعمق هذه اللمسة ويقوي وقعها; وهو يصور الأرض تأكل منهم شيئا فشيئا:
قد علمنا ما تنقص الأرض منهم، وعندنا كتاب حفيظ ..
لكأنما التعبير يجسم حركة الأرض ويحييها وهي تذيب أجسادهم المغيبة فيها، وتأكلها رويدا رويدا. ويصور أجسادهم وهي تتآكل باطراد وتبلى. ليقول: إن الله يعلم ما تأكله الأرض من أجسادهم، وهو مسجل في كتاب حفيظ; فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا. أما إعادة الحياة إلى هذا التراب، فقد حدثت من قبل، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي.
وهكذا تتوالى اللمسات التي تذيب القلوب وترققها، وتدعها حساسة متوفزة جيدة الاستقبال. وذلك قبل البدء في الهجوم على القضية ذاتها!
ثم يكشف عن حقيقة حالهم التي تنبعث منها تلك الاعتراضات الواهية. ذلك أنهم تركوا الحق الثابت،
[ ص: 3359 ] فمادت الأرض من تحتهم، ولم يعودوا يستقرون على شيء أبدا:
بل كذبوا بالحق لما جاءهم، فهم في أمر مريج ..
وإنه لتعبير فريد مصور مشخص لحال من يفارقون الحق الثابت، فلا يقر لهم من بعده قرار..
إن الحق هو النقطة الثابتة التي يقف عليها من يؤمن بالحق فلا تتزعزع قدماه، ولا تضطرب خطاه، لأن الأرض ثابتة تحت قدميه لا تتزلزل ولا تخسف ولا تغوص. وكل ما حوله - عدا الحق الثابت - مضطرب مائج مزعزع مريج، لا ثبات له ولا استقرار، ولا صلابة له ولا احتمال. فمن تجاوز نقطة الحق الثابتة زلت قدماه في ذلك المضطرب المريج، وفقد الثبات والاستقرار، والطمأنينة والقرار. فهو أبدا في أمر مريج لا يستقر على حال!
ومن يفارق الحق تتقاذفه الأهواء، وتتناوحه الهواجس، وتتخاطفه الهواتف، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك. ويضطرب سعيه هنا وهناك، وتتأرجح مواقفه إلى اليمين وإلى الشمال. وهو لا يلوذ من حيرته بركن ركين، ولا بملجأ أمين.. فهو في أمر مريج..
إنه تعبير عجيب، يجسم خلجات القلوب، وكأنها حركة تتبعها العيون!
واستطرادا مع إيقاع الحق الثابت المستقر الراسي الشامخ - وفي الطريق إلى مناقشة اعتراضهم على حقيقة البعث - يعرض بعض مظاهر الحق في بناء الكون; فيوجه أنظارهم إلى السماء وإلى الأرض وإلى الرواسي، وإلى الماء النازل من السماء، وإلى النخل الباسقات، وإلى الجنات والنبات. في تعبير يتناسق مع صفة الحق الثابت الراسي.. الجميل..
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها؟ وما لها من فروج ..
إن هذه السماء صفحة من كتاب الكون تنطق بالحق الذي فارقوه. أفلم ينظروا إلى ما فيها من تشامخ وثبات واستقرار؟ وإلى ما فيها بعد ذلك من زينة وجمال وبراءة من الخلل والاضطراب! إن الثبات والكمال والجمال هي صفة السماء التي تتناسق مع السياق هنا. مع الحق وما فيه من ثبات وكمال وجمال. ومن ثم تجيء صفة البناء وصفة الزينة وصفة الخلو من الثقوب والفروج.
وكذلك الأرض صفحة من كتاب الكون القائم على الحق المستقر الأساس الجميل البهيج:
والأرض مددناها، وألقينا فيها رواسي، وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ..
فالامتداد في الأرض والرواسي الثابتات والبهجة في النبات.. تمثل كذلك صفة الاستقرار والثبات والجمال، التي وجه النظر إليها في السماء.
وعلى مشهد السماء المبنية المتطاولة الجميلة، والأرض الممدودة الراسية البهيجة يلمس قلوبهم، ويوجهها إلى جانب من حكمة الخلق، ومن عرض صفحات الكون:
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب ..
تبصرة تكشف الحجب، وتنير البصيرة، وتفتح القلوب، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب.. تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب.
وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل. هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون، والتعرف إليه أثرا في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية. هذه هي الوصلة
[ ص: 3360 ] التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها "علمية" في هذا الزمان. فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه. فالناس قطعة من هذا الكون لا تصح حياتهم ولا تستقيم إلا حين تنبض قلوبهم على نبض هذا الكون; وإلا حين تقوم الصلة وثيقة بين قلوبهم وإيقاعات هذا الكون الكبير. وكل معرفة بنجم من النجوم، أو فلك من الأفلاك، أو خاصة من خواص النبات والحيوان، أو خواص الكون كله على وجه الإجمال وما فيه من عوالم حية وجامدة - إذا كانت هناك عوالم جامدة أو شيء واحد جامد في هذا الوجود! - كل معرفة "علمية" يجب أن تستحيل في الحال إلى إيقاع في القلب البشري، وإلى ألفة مؤنسة بهذا الكون، وإلى تعارف يوثق أواصر الصداقة بين الناس والأشياء والأحياء. وإلى شعور بالوحدة التي تنتهي إلى خالق هذا الكون وما فيه ومن فيه.. وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر، هي معرفة ناقصة، أو علم زائف، أو بحث عقيم!
إن هذا الكون هو كتاب الحق المفتوح، الذي يقرأ بكل لغة، ويدرك بكل وسيلة ويستطيع أن يطالعه الساذج ساكن الخيمة والكوخ، والمتحضر ساكن العمائر والقصور. كل يطالعه بقدر إدراكه واستعداده، فيجد فيه زادا من الحق، حين يطالعه بشعور التطلع إلى الحق. وهو قائم مفتوح في كل آن:
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .. ولكن العلم الحديث يطمس هذه التبصرة أو يقطع تلك الوشيجة بين القلب البشري والكون الناطق المبين. لأنه في رؤوس مطموسة رانت عليها خرافة "المنهج العلمي". المنهج الذي يقطع ما بين الكون والخلائق التي تعيش فيه!
والمنهج الإيماني لا ينقص شيئا من ثمار "المنهج العلمي" في إدراك الحقائق المفردة. ولكنه يزيد عليه ربط هذه الحقائق المفردة بعضها ببعض، وردها إلى الحقائق الكبرى، ووصل القلب البشري بها، أي: وصله بنواميس الكون وحقائق الوجود، وتحويل هذه النواميس والحقائق إلى إيقاعات مؤثرة في مشاعر الناس وحياتهم; لا معلومات جامدة جافة متحيزة في الأذهان لا تفضي لها بشيء من سرها الجميل! والمنهج الإيماني هو الذي يجب أن تكون له الكرة في مجال البحوث والدراسات ليربط الحقائق العلمية التي يهتدي إليها بهذا الرباط الوثيق..