وهنا يصل بنا السياق إلى أصحاب الشمال - وهم أصحاب المشأمة الذين سبقت الإشارة إليهم في مطلع السورة:
وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟ في سموم وحميم. وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم. إنهم كانوا قبل ذلك مترفين. وكانوا يصرون على الحنث العظيم. وكانوا يقولون: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟ أوآباؤنا الأولون؟ قل: إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم. ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون من شجر من زقوم. فمالئون منها البطون. فشاربون عليه من الحميم. فشاربون شرب الهيم. هذا نزلهم يوم الدين ..
فلئن كان أصحاب اليمين في ظل ممدود وماء مسكوب.. فأصحاب الشمال
في سموم وحميم. وظل من يحموم، لا بارد ولا كريم .. فالهواء شواظ ساخن ينفذ إلى المسام ويشوي الأجسام. والماء متناه في الحرارة لا يبرد ولا يروي. وهناك ظل! ولكنه
وظل من يحموم .. ظل الدخان اللافح الخانق.. إنه ظل للسخرية والتهكم. ظل
لا بارد ولا كريم .. فهو ظل ساخن لا روح فيه ولا برد; وهو كذلك كز لا يمنح وراده راحة ولا إنعاشا!.. هذا الشظف كله جزاء وفاق:
إنهم كانوا قبل ذلك مترفين .. وما آلم الشظف للمترفين!
وكانوا يصرون على الحنث العظيم .. والحنث الذنب. وهو هنا الشرك بالله. وفيه إلماع إلى الحنث بالعهد الذي أخذه الله على فطرة العباد أن يؤمنوا به ويوحدوه.
وكانوا يقولون: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون؟ أوآباؤنا الأولون؟ كانوا ... هكذا يعبر القرآن، كأنما الدنيا التي فيها المخاطبون قد طويت وانتهت فإذا هي ماض. والحاضر هو هذا المشهد وهذا العذاب! ذلك أن الدنيا كلها ومضة. وهذا الحاضر هو العقبى والمآب.
وهنا يلتفت السياق إلى الدنيا في أنسب الأوقات لهذه اللفتة ليرد على سؤالهم ذاك:
قل: إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم .. هو هذا اليوم الحاضر المعروض المشهود!
ثم يعود إلى ما ينتظر المكذبين. فيتم صورة العذاب الذي يلقاه المترفون:
ثم إنكم أيها الضالون المكذبون. لآكلون من شجر من زقوم .. ولا يدري أحد ما شجرة الزقوم إلا ما وصفها الله به في سورة أخرى من أن طلعها كرؤوس الشياطين. ورؤوس الشياطين لم يرها أحد ولكنها تلقي في الحس ما تلقيه! على أن لفظ "الزقوم" نفسه يصور بجرسه ملمسا خشنا شائكا مدببا يشوك الأكف - بله الحلوق - وذلك في مقابل السدر المخضود والطلح المنضود - ومع أن الزقوم كرؤوس الشياطين! فإنهم لآكلون منها
فمالئون منها البطون .. فالجوع طاغ والمحنة غالبة.. وإن الشوك الخشن ليدفع إلى الماء لتسليك الحلوق وري البطون! وإنهم لشاربون
فشاربون عليه من الحميم .. الساخن الذي لا يبرد غلة ولا يروي ظمأ.
فشاربون شرب الهيم .. وهي الإبل المصابة بداء الاستسقاء لا تكاد ترتوي من الماء!
هذا نزلهم يوم الدين .. والنزل للراحة والاستقرار. ولكن أصحاب الشمال هذا نزلهم الذي لا راحة فيه ولا قرار! هذا نزلهم في اليوم الذي كانوا يشكون فيه، ويتساءلون عنه، ولا يصدقون خبر القرآن به. كما كانوا يشركون بالله ولا يخافون وعيده بذلك اليوم المشهود..
بهذا ينتهي استعراض المصائر والأقدار، يوم تقع الواقعة. الخافضة الرافعة. وينتهي كذلك الشوط الأول من السورة.
[ ص: 3466 ] فأما الشوط الثاني في السورة فيستهدف بناء العقيدة بكليتها، وإن كان التوكيد البارز فيه على قضية البعث والنشأة الأخرى. وفيه تتجلى طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية، وفي تناول الدلائل الإيمانية، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة..
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة، قضايا كونية كبرى; يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود; وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورا كاملا لهذا الوجود. كما يجعل منها منهجا للنظر والتفكير; وحياة للأرواح والقلوب، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها!
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيدا عن أنفسهم، ولا عن مألوف حياتهم، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم.. إنه لا يبعد لهم في فلسفات معقدة، أو مشكلات عقلية عويصة، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد.. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة، وتصورا للكون والحياة قائما على هذه العقيدة.
إن أنفسهم من صنع الله; وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته. والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده. وهذا القرآن قرآنه. ومن يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم لها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها; فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة، وسر الوحدانية المفردة، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم; والذي يحمل دلائل الإيمان، وبراهين العقيدة، فيبثها في كيانهم، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق.
وعلى هذا المنهج يسير في هذا الشوط من السورة; وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي يوقدون - وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم - كذلك يصور لهم لحظة النهاية. نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر. اللحظة التي يواجهها كل أحد، والتي تنتهي عندها كل حيلة، والتي تقف الأحياء وجها لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة، لا محاولة فيها ولا مجال! حيث تسقط جميع الأقنعة، وتبطل جميع التعلات.
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره.. إنه المصدر الذي صدر منه الكون. فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال، وأضخم الخلائق.. الذرة يظن أنها مادة بناء الكون، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة.. والذرة على صغرها معجزة في ذاتها. والخلية على ضآلتها آية في ذاتها.. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني.. المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان: النسل. والزرع. والماء. والنار. والموت.. أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية، ونشأة نبتة. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟ .. من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة.. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية، وأعظم الأسرار الربانية - بالإضافة إلى الإشارة إلى مواقع النجوم - فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان. وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان:
[ ص: 3467 ] مواقع النجوم تعني هندسة الكون.
نشأة الحياة الإنسانية.. وهي سر الأسرار.
نشأة الحياة النباتية.. وهي كالحياة الحيوانية معجزة المعجزات.
والماء.. أصل الحياة.
والنار.. المعجزة التي صنعت الحضارة الإنسانية.
هذه الطريقة في تناول الأشياء، وبناء العقيدة والتفكير، ليست طريقة البشر. فالبشر حين يخوضون في هذه المجالات لا يلتفتون إلى هذه المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية. وإذا التفتوا إليها لم يتناولوها بهذا اليسر وبهذه البساطة. بل يحاولون وضع المسألة في قالب فلسفي تجريدي معقد، لا يصلح إلا لخطاب طبقة خاصة من الناس!
أما الله فطريقته هي هذه.. تناول المواد الأولية التي هي بذاتها المواد الكونية. وبناء العقيدة بها في يسر وسهولة. تماما كما يصنع - سبحانه - في تناول المواد الأولية التي هي مواد كونية ويصنع منها الكون..
هذا من ذاك. وعلامة الصنعة واحدة، واضحة هنا وهناك!
نحن خلقناكم فلولا تصدقون! أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين. على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون. ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون! ..
إن هذا الأمر أمر النشأة الأولى ونهايتها. أمر الخلق وأمر الموت. إنه أمر منظور ومألوف وواقع في حياة الناس. فكيف لا يصدقون أن الله خلقهم؟ إن ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف له الكيان البشري أو يجادل فيه:
نحن خلقناكم فلولا تصدقون! ..
أفرأيتم ما تمنون؟ أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون؟ ..
إن دور البشر في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني رحم امرأة. ثم ينقطع عمله وعملها. وتأخذ يد القدرة في العمل وحدها في هذا الماء المهين. تعمل وحدها في خلقه وتنميته، وبناء هيكله، ونفخ الروح فيه. ومنذ اللحظة الأولى وفي كل لحظة تالية تتم المعجزة، وتقع الخارقة التي لا يصنعها إلا الله. والتي لا يدري البشر كنهها وطبيعتها; كما لا يعرفون كيف تقع. بله أن يشاركوا فيها!
وهذا القدر من التأمل يدركه كل إنسان. وهذا يكفي لتقدير هذه المعجزة والتأثر بها. ولكن قصة هذه الخلية الواحدة منذ أن تمنى، إلى أن تصير خلقا، قصة أغرب من الخيال. قصة لا يصدقها العقل لولا أنها تقع فعلا، ويشهد وقوعها كل إنسان!
هذه الخلية الواحدة تبدأ في الانقسام والتكاثر، فإذا هي بعد فترة ملايين الملايين من الخلايا. كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة ذات خصائص تختلف عن خصائص المجموعات الأخرى; لأنها مكلفة أن تنشئ جانبا خاصا من المخلوق البشري! فهذه خلايا عظام. وهذه خلايا عضلات. وهذه خلايا جلد. وهذه خلايا أعصاب.. ثم.. هذه خلايا لعمل عين. وهذه خلايا لعمل لسان. وهذه خلايا لعمل أذن. وهذه خلايا لعمل غدد.. وهي أكثر تخصصا من المجموعات السابقة.. وكل منها تعرف مكان عملها، فلا تخطئ خلايا العين
[ ص: 3468 ] مثلا، فتطلع في البطن أو في القدم. مع أنها لو أخذت أخذا صناعيا فزرعت في البطن مثلا صنعت هنالك عينا! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذنا هناك! .. إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال.
هذه هي البداية. أما النهاية فلا تقل عنها إعجازا ولا غرابة. وإن كانت مثلها من مشاهدات البشر المألوفة:
نحن قدرنا بينكم الموت، وما نحن بمسبوقين ..
هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي.. ما هو؟ وكيف يقع؟ وأي سلطان له لا يقاوم؟
إنه قدر الله.. ومن ثم لا يفلت منه أحد، ولا يسبقه فيفوته أحد.. وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل..
على أن نبدل أمثالكم ..
لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم. والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة. قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا.. فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى:
وننشئكم في ما لا تعلمون ..
في ذلك العالم المغيب المجهول، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله. وعندئذ تبلغ النشأة تمامها، وتصل القافلة إلى مقرها.
هذه هي النشأة الآخرة..
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون! .. فهي قريب من قريب. وليس فيها من غريب.
بهذه البساطة وبهذه السهولة يعرض القرآن قصة النشأة الأولى والنشأة الآخرة. وبهذه البساطة وهذه السهولة يقف الفطرة أمام المنطق الذي تعرفه، ولا تملك أن تجادل فيه. لأنه مأخوذ من بديهياتها هي، ومن مشاهدات البشر في حياتهم القريبة. بلا تعقيد. ولا تجريد. ولا فلسفة تكد الأذهان، ولا تبلغ إلى الوجدان..
إنها طريقة الله. مبدع الكون، وخالق الإنسان، ومنزل القرآن..