ولما كان الكف عن الإنفاق، أو التقدم بالرديء الخبيث، إنما ينشأ عن دوافع السوء، وعن تزعزع اليقين فيما عند الله، وعن الخوف من الإملاق الذي لا يساور نفسا تتصل بالله، وتعتمد عليه، وتدرك أن مرد ما عندها إليه.. كشف الله للذين آمنوا عن هذه الدوافع لتبدو لهم عارية، وليعرفوا من أين تنبت النفوس; وما الذي يثيرها في القلوب.. إنه الشيطان..
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولو الألباب ..
الشيطان يخوفكم الفقر، فيثير في نفوسكم الحرص والشح والتكالب. والشيطان يأمركم بالفحشاء - والفحشاء كل معصية تفحش أي: تتجاوز الحد، وإن كانت قد غلبت على نوع معين من المعاصي ولكنها شاملة.
وخوف الفقر كان يدعو القوم في جاهليتهم لوأد البنات وهو فاحشة; والحرص على جمع الثروة كان يؤدي ببعضهم إلى
أكل الربا وهو فاحشة.. على أن خوف الفقر بسبب الإنفاق في سبيل الله في ذاته فاحشة..
وحين يعدكم الشيطان الفقر ويأمركم بالفحشاء يعدكم الله المغفرة والعطاء:
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ..
ويقدم المغفرة، ويؤخر الفصل.. فالفضل زيادة فوق المغفرة. وهو يشمل كذلك عطاء الرزق في هذه الأرض، جزاء البذل في سبيل الله والإنفاق.
والله واسع عليم ..
يعطي عن سعة، ويعلم ما يوسوس في الصدور، وما يهجس في الضمير، والله لا يعطي المال وحده، ولا يعطي المغفرة وحدها. إنما يعطي
الحكمة وهي توخي القصد والاعتدال، وإدراك العلل والغايات، ووضع الأمور في نصابها في تبصر وروية وإدراك:
يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ..
أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود; وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور; وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال.. وذلك خير كثير متنوع الألون..
وما يذكر إلا أولو الألباب ..
فصاحب اللب - وهو العقل - هو الذي يتذكر فلا ينسى، ويتنبه فلا يغفل، ويعتبر فلا يلج في الضلال.. وهذه وظيفة العقل .. وظيفته أن يذكر موحيات الهدى ودلائله; وأن ينتفع بها فلا يعيش لاهيا غافلا.
هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه. هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي: رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة.. وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى:
أن
من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها، بل يعينه عليها: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .. ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه
[ ص: 313 ] الحكمة، وتمنحه ذلك الخير الكثير.
وهناك حقيقة أخرى نلم بها قبل مغادرة هذه الوقفة عند قوله تعالى:
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء ...
..
إن أمام الإنسان طريقين اثنين لا ثالث لهما: طريق الله. وطريق الشيطان. أن يستمع إلى وعد الله أو أن يستمع إلى وعد الشيطان. ومن لا يسير في طريق الله ويسمع وعده فهو سائر في طريق الشيطان ومتبع وعده..
ليس هنالك إلا منهج واحد هو الحق.. المنهج الذي شرعه الله.. وما عداه فهو للشيطان ومن الشيطان.
هذه الحقيقة يقررها القرآن الكريم ويكررها ويؤكدها بكل مؤكد. كي لا تبقى حجة لمن يريد أن ينحرف عن منهج الله ثم يدعي الهدى والصواب في أي باب. ليست هنالك شبهة ولا غشاوة.. الله. أو الشيطان.
منهج الله أو منهج الشيطان. طريق الله أو طريق الشيطان.. ولمن شاء أن يختار..
ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة .. لا شبهة ولا غبش ولا غشاوة.. وإنما هو الهدى أو الضلال. وهو الحق واحد لا يتعدد.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!.