[ ص: 3474 ] (57)
سورة الحديد مدنية
وآياتها تسع وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح لله ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (1)
له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير (2)
هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم (3)
هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4)
له ملك السماوات والأرض وإلى الله ترجع الأمور (5)
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وهو عليم بذات الصدور (6)
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير (7)
وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين (8)
هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرءوف رحيم (9)
وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير (10)
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم (11)
يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك هو الفوز العظيم (12)
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من .نوركم [ ص: 3475 ] قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب (13)
ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور (14)
فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير (15)
هذه السورة بجملتها دعوة للجماعة الإسلامية كي تحقق في ذاتها حقيقة إيمانها. هذه الحقيقة التي تخلص بها النفوس لدعوة الله; فلا تضن عليها بشيء، ولا تحتجز دونها شيئا.. لا الأرواح ولا الأموال; ولا خلجات القلوب ولا ذوات الصدور.. وهي الحقيقة التي تستحيل بها النفوس ربانية بينما تعيش على الأرض. موازينها هي موازين الله، والقيم التي تعتز بها وتسابق إليها هي القيم التي تثقل في هذه الموازين. كما أنها هي الحقيقة التي تشعر القلوب بحقيقة الله، فتخشع لذكره، وترجف وتفر من كل عائق وكل جاذب يعوقها عن الفرار إليه.
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة تدعو السورة الجماعة الإسلامية إلى البذل في سبيل الله. بذل النفس وبذل المال:
آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه. فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير، وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين. هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وإن الله بكم لرءوف رحيم. وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله، ولله ميراث السماوات والأرض. لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. وكلا وعد الله الحسنى. والله بما تعملون خبير .
وعلى أساس هذه الحقيقة الكبيرة كذلك تدعو الجماعة الإسلامية إلى الخشوع لذكر الله وللحق الذي أنزله الله ليجيء البذل ثمرة لهذا الخشوع المنبعث من الحقيقة الإيمانية الأولى:
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل، فطال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون ..
وكذلك تضع قيم الدنيا وقيم الآخرة في ميزان الحق; وتدعو الجماعة الإسلامية لاختيار الكفة الراجحة، والسباق إلى القيمة الباقية:
اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا، ثم يكون حطاما. وفي الآخرة عذاب شديد، ومغفرة من الله ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور: سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ..
وظاهر من سياق السورة - إلى جانب عمومية الدعوة الدائمة إلى تلك الحقيقة - أنها كانت تعالج كذلك حالة واقعة في الجماعة الإسلامية عند نزول هذه السورة في المجتمع المدني في فترة تمتد من العام الرابع الهجري إلى ما بعد فتح
مكة.
فإلى جانب السابقين من
المهاجرين والأنصار، الذين ضربوا أروع مثال عرفته البشرية، في تحقيق حقيقة الإيمان في نفوسهم، وفي البذل والتضحية بأرواحهم وأموالهم، في خلوص نادر، وتجرد كامل، وانطلاق
[ ص: 3476 ] من أوهاق الأرض وجوانب الغريزة ومعوقات الطريق إلى الله ...
إلى جانب هذه الفئة الممتازة الفذة، كانت هناك - في الجماعة الإسلامية - فئة أخرى ليست في هذا المستوي الإيماني الخالص الرفيع - وبخاصة بعد الفتح عند ما ظهر الإسلام، ودخل فيه الناس أفواجا، وكان من بينهم من لم يدركوا بعد حقيقة الإيمان الكبيرة، ولم يعيشوا بها ولها كما عاشت تلك الفئة السابقة الخالصة المخلصة لله.
هؤلاء المسلمون من الفئة الأخرى كان يصعب عليهم البذل في سبيل الله; وتشق عليهم تكاليف العقيدة في النفس والمال; وتزدهيهم قيم الحياة الدنيا وزينتها; فلا يستطيعون الخلاص من دعائها وإغرائها.
وهؤلاء - بصفة خاصة - هم الذين تهتف بهم هذه السورة تلك الهتافات الموحية التي أسلفنا نماذج منها، لتخلص أرواحهم من تلك الأوهاق والجواذب، وترفعها إلى مستوى الحقيقة الإيمانية الكبرى، التي تصغر معها كل قيم الأرض، وتذوب في حرارتها كل عوائقها!
كذلك كانت هنالك طائفة أخرى - غير هؤلاء وأولئك - هي طائفة المنافقين، مختلطة غير متميزة. وبخاصة حين ظهرت غلبة الإسلام، واضطر المنافقون إلى التخفي والانزواء مع بقاء قلوبهم مشوبة غير خالصة ولا مخلصة يتربصون الفرص وتجرفهم الفتن. وهؤلاء تصور السورة مصيرهم يوم يميزون ويعزلون عن المؤمنين: