بعد ذلك نعود مع السياق إلى الصدقة.. إن الله يعلم كل ما ينفقه المنفق .. صدقة كان أم نذرا. وسرا كان أم جهرا. ومن مقتضى علمه أنه يجزي على الفعل وما وراءه من النية:
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه. وما للظالمين من أنصار إن تبدوا الصدقات فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم، والله بما تعملون خبير ..
والنفقة تشمل سائر ما يخرجه صاحب المال من ماله : زكاة أو صدقة أو تطوعا بالمال في جهاد.. والنذر نوع من أنواع النفقة يوجبه المنفق على نفسه مقدرا بقدر معلوم. والنذر لا يكون لغير الله ولوجهه وفي سبيله.
فالنذر لفلان من عباده نوع من الشرك، كالذبائح التي كان يقدمها المشركون لآلهتهم وأوثانهم في شتى عصور الجاهلية.
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه ..
وشعور المؤمن بأن عين الله - سبحانه - على نيته وضميره، وعلى حركته وعمله.. يثير في حسه مشاعر حية متنوعة; شعور التقوى والتحرج أن يهجس في خاطره هاجس رياء أو تظاهر، وهاجس شح أو بخل، وهاجس خوف من الفقر أو الغبن. وشعور الاطمئنان على الجزاء والثقة بالوفاء. وشعور الرضى والراحة بما وفى لله وقام بشكر نعمته عليه بهذا الإنفاق مما أعطاه..
فأما الذي لا يقوم بحق النعمة; والذي لا يؤدي الحق لله ولعباده; والذي يمنع الخير بعد ما أعطاه الله إياه.. فهو ظالم. ظالم للعهد، وظالم للناس، وظالم لنفسه:
وما للظالمين من أنصار ..
فالوفاء عدل وقسط . والمنع ظلم وجور. والناس في هذا الباب صنفان: مقسط قائم بعهد الله معه إن أعطاه النعمة وفى وشكر. وظالم ناكث لعهد الله، لم يعط الحق ولم يشكر..
وما للظالمين من أنصار ..
271 -
وإخفاء الصدقة حين تكون تطوعا أولى وأحب إلى الله; وأجدر أن تبرأ من شوائب التظاهر والرياء. فأما حين تكون أداء للفريضة فإن إظهارها فيه معنى الطاعة، وفشو هذا المعنى وظهوره خير.. ومن ثم تقول الآية:
[ ص: 314 ] إن تبدوا الصدقات فنعما هي. وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .. فتشمل هاتين الحالتين، وتعطي كل حالة ما يناسبها من التصرف; وتحمد هذه في موضعها وتلك في موضعها وتعد المؤمنين على هذه وتلك تكفير السيئات:
ويكفر عنكم من سيئاتكم ..
وتستجيش في قلوبهم التقوى والتحرج من جانب، والطمأنينة والراحة من جانب آخر، وتصلها بالله في النية والعمل في جميع الأحوال:
والله بما تعملون خبير ..
ولا بد أن نلحظ طول التوجيه إلى الإنفاق ; وتنوع أساليب الترغيب والترهيب بصدده; لندرك أمرين:
الأول: بصر الإسلام بطبيعة النفس البشرية وما يخالجها من الشح بالمال، وحاجتها إلى التحريك المستمر والاستجاشة الدائبة لتستعلي على هذا الحرص وتنطلق من هذا الشح، وترتفع إلى المستوى الكريم الذي يريده الله للناس.
والثاني: ما كان يواجهه القرآن من هذه الطبيعة في البيئة العربية التي اشتهرت شهرة عامة بالسخاء والكرم.. ولكنه كان سخاء وكرما يقصد به الذكر والصيت وثناء الناس وتناقل أخباره في المضارب والخيام!.
ولم يكن أمرا ميسورا أن يعلمهم الإسلام أن يتصدقوا دون انتظار لهذا كله، متجردين من هذا كله، متجهين لله وحده دون الناس. وكان الأمر في حاجة إلى التربية الطويلة، والجهد الكثير، والهتاف المستمر بالتسامي والتجرد والخلاص! .. وقد كان..