والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم وحال أعدائهم. فهذا نصف المعركة. والقرآن يطلعهم على هذه الحقيقة في سياق وصفه لحادث وقع، وفي سياق التعقيب عليه، وشرح ما وراءه من حقائق ودلائل، شرحا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه، ويتدبره كل من جاء بعدهم، وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة!
ولم يكن حادث
بني النضير هو الأول من نوعه، فقد سبقه حادث
بني قينقاع الذي تشير إليه الآية بعد ذلك غالبا:
كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ..
ووقعة
بني قينقاع كانت بعد غزوة
بدر وقبل غزوة
أحد. وكان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد. فلما انتصر المسلمون على المشركين في
بدر كره اليهود ذلك، وحقدوا على المسلمين أن ينالوا هذا الانتصار
[ ص: 3530 ] العظيم، وخافوا أن يؤثر هذا على موقفهم في
المدينة فيضعف من مركزهم بقدر ما يقوي من مركز المسلمين. وبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يتهامسون به وما يفكرون فيه من الشر، فذكرهم العهد وحذرهم مغبة هذا الاتجاه. فردوا ردا غليظا مغيظا فيه تهديد. قالوا: يا
محمد. إنك لترى أنا قومك! لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة. إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس!
ثم أخذوا يتحرشون بالمسلمين; وذكرت الروايات من هذا أن امرأة من
العرب قدمت ببضاعة لها فباعتها بسوق
بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت. فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله. وشدت يهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ أهل المسلم المسلمين. فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين
بني قينقاع.
وحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلوا على حكمه. فقام رأس المنافقين
عبد الله بن أبي بن سلول يجادل رسول الله عنهم، باسم ما كان بينهم وبين
الخزرج من عهد! ولكن الحقيقة كانت هي هذه الصلة بين المنافقين وإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب! فرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النهاية أن يجلوا عن
المدينة، وأن يأخذوا معهم أموالهم ومتاعهم - إلا السلاح - ورحلوا إلى
الشام.
فهذه هي الواقعة التي يشير إليها القرآن ويقيس عليها حال
بني النضير وحقيقتهم.. وحال المنافقين مع هؤلاء وهؤلاء!
ويضرب للمنافقين الذين أغروا إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بالمقاومة، فانتهوا بهم إلى تلك النهاية البائسة. يضرب لهم مثلا بحال دائمة. حال الشيطان مع الإنسان، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير:
كمثل الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر. فلما كفر قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين ..
وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان، تتفقان مع طبيعته ومهمته. فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان. وحاله هو هذا الحال!
وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة. فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية، في مجال حي من الواقع; ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن. فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة. وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين!
وبهذا المثل الموحي تنتهي قصة
بني النضير. وقد ضمت في ثناياها وفي أعقابها هذا الحشد من الصور والحقائق والتوجيهات. واتصلت أحداثها المحلية الواقعة بالحقائق الكبرى المجردة الدائمة. وكانت رحلة في عالم الواقع وفي عالم الضمير، تمتد إلى أبعد من حدود الحادث ذاته، وتفترق روايتها في كتاب الله عن روايتها في كتب البشر بمقدار ما بين صنع الله وصنع البشر من فوارق لا تقاس!!
وعند هذا الحد من رواية الحادث والتعقيب عليه وربطه بالحقائق البعيدة المدى يتجه الخطاب في السورة إلى المؤمنين، يهتف بهم باسم الإيمان، ويناديهم بالصفة التي تربطهم بصاحب الخطاب، وتيسر عليهم الاستجابة
[ ص: 3531 ] لتوجيهه وتكليفه. يتجه إليهم ليدعوهم إلى التقوى. والنظر فيما أعدوه للآخرة، واليقظة الدائمة، والحذر من نسيان الله كالذين نسوه من قبل، ممن رأوا مصير فريق منهم، وممن كتب عليهم أنهم من أصحاب النار:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة. أصحاب الجنة هم الفائزون ..
والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها. حالة تجعل القلب يقظا حساسا شاعرا بالله في كل حالة. خائفا متحرجا مستحييا أن يطلع عليه الله في حالة يكرهها. وعين الله على كل قلب في كل لحظة. فمتى يأمن أن لا يراه؟!
ولتنظر نفس ما قدمت لغد ..
وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه.. ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته. لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة.. وهذا التأمل كفيل بأن يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد. فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلا، ونصيبه من البر ضئيلا؟ إنها لمسة لا ينام بعدها القلب أبدا، ولا يكف عن النظر والتقليب!
ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع:
واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ..
فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء.. والله خبير بما يعملون..
وبمناسبة ما تدعوهم إليه هذه الآية من يقظة وتذكر يحذرهم في الآية التالية من أن يكونوا
كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .. وهي حالة عجيبة. ولكنها حقيقة.. فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى. وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى، وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر لها زادا للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.
أولئك هم الفاسقون .. المنحرفون الخارجون.
وفي الآية التالية يقرر أن هؤلاء هم أصحاب النار، ويشير للمؤمنين ليسلكوا طريقا غير طريقهم وهم أصحاب الجنة. وطريق أصحاب الجنة غير طريق أصحاب النار:
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة. أصحاب الجنة هم الفائزون ..
لا يستويان طبيعة وحالا، ولا طريقا ولا سلوكا، ولا وجهة ولا مصيرا. فهما على مفرق طريقين لا يلتقيان أبدا في طريق. ولا يلتقيان أبدا في سمة. ولا يلتقيان أبدا في خطة. ولا يلتقيان أبدا في سياسة. ولا يلتقيان أبدا في صف واحد في دنيا ولا آخرة..
أصحاب الجنة هم الفائزون .. يثبت مصيرهم ويدع مصير أصحاب النار مسكوتا عنه. معروفا. وكأنه ضائع لا يعنى به التعبير!
[ ص: 3532 ] ثم يجيء الإيقاع الذي يتخلل القلب ويهزه; وهو يعرض أثر القرآن في الصخر الجامد لو تنزل عليه:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله. وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
وهي صورة تمثل حقيقة. فإن لهذا القرآن لثقلا وسلطانا وأثرا مزلزلا لا يثبت له شيء يتلقاه بحقيقته. ولقد وجد
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما وجد، عند ما سمع قارئا يقرأ:
والطور، وكتاب مسطور، في رق منشور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ... فارتكن إلى الجدار. ثم عاد إلى بيته يعوده الناس شهرا مما ألم به!
واللحظات التي يكون فيها الكيان الإنساني متفتحا لتلقي شيء من حقيقة القرآن يهتز فيها اهتزازا ويرتجف ارتجافا. ويقع فيه من التغيرات والتحولات ما يمثله في عالم المادة فعل المغنطيس والكهرباء بالأجسام. أو أشد.
والله خالق الجبال ومنزل القرآن يقول:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ..
والذين أحسوا شيئا من مس القرآن في كيانهم يتذوقون هذه الحقيقة تذوقا لا يعبر عنه إلا هذا النص القرآني المشع الموحي.
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ..
وهي خليقة بأن توقظ القلوب للتأمل والتفكير..
وأخيرا تجيء تلك التسبيحة المديدة بأسماء الله الحسنى; وكأنما هي أثر من آثار القرآن في كيان الوجود كله، ينطلق بها لسانه وتتجاوب بها أرجاؤه; وهذه الأسماء واضحة الآثار في صميم هذا الوجود وفي حركته وظواهره، فهو إذ يسبح بها يشهد كذلك بآثارها:
هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم .
هو الله الذي لا إله إلا هو، الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر. سبحان الله عما يشركون .
هو الله الخالق البارئ المصور، له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم .
إنها تسبيحة مديدة بهذه الصفات المجيدة. ذات ثلاثة مقاطع. يبدأ كل مقطع منها بصفة التوحيد: "هو الله الذي لا إله إلا هو".. أو "هو الله"..
ولكل اسم من هذه الأسماء الحسنى أثر في هذا الكون ملحوظ، وأثر في حياة البشر ملموس. فهي توحي إلى القلب بفاعلية هذه الأسماء والصفات. فاعلية ذات أثر وعلاقة بالناس والأحياء. وليست هي صفات سلبية أو منعزلة عن كيان هذا الوجود، وأحواله وظواهره المصاحبة لوجوده.
هو الله الذي لا إله إلا هو .. فتتقرر في الضمير وحدانية الاعتقاد، ووحدانية العبادة، ووحدانية الاتجاه، ووحدانية الفاعلية من مبدإ الخلق إلى منتهاه. ويقوم على هذه الوحدانية منهج كامل في التفكير والشعور والسلوك، وارتباطات الناس بالكون وبسائر الأحياء. وارتباطات الناس بعضهم ببعض على أساس وحدانية الإله.
عالم الغيب والشهادة .. فيستقر في الضمير الشعور بعلم الله للظاهر والمستور. ومن ثم تستيقظ مراقبة هذا الضمير لله في السر والعلانية; ويعمل الإنسان كل ما يعمل بشعور المراقب من الله المراقب لله، الذي لا يعيش وحده، ولو كان في خلوة أو مناجاة! ويتكيف سلوكه بهذا الشعور الذي لا يغفل بعده قلب ولا ينام!
[ ص: 3533 ] هو الرحمن الرحيم فيستقر في الضمير شعور الطمأنينة لرحمة الله والاسترواح. ويتعادل الخوف والرجاء، والفزع والطمأنينة. فالله في تصور المؤمن لا يطارد عباده ولكن يراقبهم. ولا يريد الشر بهم بل يحب الهدى، ولا يتركهم بلا عون وهم يصارعون الشرور والأهواء.
هو الله الذي لا إله إلا هو .. يعيدها في أول التسبيحة التالية، لأنها القاعدة التي تقوم عليها سائر الصفات..
الملك .. فيستقر في الضمير أن لا ملك إلا الله الذي لا إله إلا هو. وإذا توحدت الملكية لم يبق للمملوكين إلا سيد واحد يتجهون إليه، ولا يخدمون غيره. فالرجل لا يخدم سيدين في وقت واحد
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ..
القدوس وهو اسم يشع القداسة المطلقة والطهارة المطلقة. ويلقي في ضمير المؤمن هذا الإشعاع الطهور، فينظف قلبه هو ويطهره، ليصبح صالحا لتلقي فيوض الملك القدوس، والتسبيح له والتقديس.
السلام .. وهو اسم كذلك يشيع السلام والأمن والطمأنينة في جنبات الوجود، وفي قلب المؤمن تجاه ربه. فهو آمن في جواره، سالم في كنفه. وحيال هذا الوجود وأهله من الأحياء والأشياء. ويؤوب القلب من هذا الاسم بالسلام والراحة والاطمئنان. وقد هدأت شرته وسكن بلباله وجنح إلى الموادعة والسلام.
المؤمن واهب الأمن وواهب الإيمان. ولفظ هذا الاسم يشعر القلب بقيمة الإيمان، حيث يلتقي فيه بالله، ويتصف منه بإحدى صفات الله. ويرتفع إذن إلى الملإ الأعلى بصفة الإيمان.
المهيمن .. وهذا بدء صفحة أخرى في تصور صفة الله - سبحانه - إذ كانت الصفات السابقة:
القدوس السلام المؤمن صفات تتعلق مجردة بذات الله. فأما هذه فتتعلق بذات الله فاعلة في الكون والناس. توحي بالسلطان والرقابة.
وكذلك:
العزيز. الجبار. المتكبر .. فهي صفات توحي بالقهر والغلبة والجبروت والاستعلاء. فلا عزيز إلا هو. ولا جبار إلا هو. ولا متكبر إلا هو. وما يشاركه أحد في صفاته هذه. وما يتصف بها سواه. فهو المتفرد بها بلا شريك.
ومن ثم يجيء ختام الآية:
سبحان الله عما يشركون ..
ثم يبدأ المقطع الأخير في التسبيحة المديدة.
هو الله .. فهي الألوهية الواحدة. وليس غيره بإله.
الخالق ..
البارئ .. والخلق: التصميم والتقدير. والبرء: التنفيذ والإخراج، فهما صفتان متصلتان والفارق بينهما لطيف دقيق..
المصور . وهي كذلك صفة مرتبطة بالصفتين قبلها. ومعناها إعطاء الملامح المتميزة والسمات التي تمنح لكل شيء شخصيته الخاصة.
وتوالي هذه الصفات المترابطة اللطيفة الفروق، يستجيش القلب لمتابعة عملية الخلق والإنشاء والإيجاد والإخراج مرحلة مرحلة - حسب التصور الإنساني - فأما في عالم الحقيقة فليست هناك مراحل ولا خطوات. وما نعرفه عن مدلول هذه الصفات ليس هو حقيقتها المطلقة فهذه لا يعرفها إلا الله. إنما نحن ندرك شيئا من آثارها هو الذي نعرفها به في حدود طاقتنا الصغيرة!
له الأسماء الحسنى .. الحسنى في ذاتها. بلا حاجة إلى استحسان من الخلق ولا توقف على استحسانهم.
[ ص: 3534 ] والحسنى التي توحي بالحسن للقلوب وتفيضه عليها. وهي الأسماء التي يتدبرها المؤمن ليصوغ نفسه وفق إيحائها واتجاهها، إذ يعلم أن الله يحب له أن يتصف بها. وأن يتدرج في مراقيه وهو يتطلع إليها.
وخاتمة هذه التسبيحة المديدة بهذه الأسماء الحسنى، والسبحة البعيدة مع مدلولاتها الموحية وفي فيوضها العجيبة، هي مشهد التسبيح لله يشيع في جنبات الوجود، وينبعث من كل موجود:
يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ..
وهو مشهد يتوقعه القلب بعد ذكر تلك الأسماء; ويشارك فيه مع الأشياء والأحياء.. كما يتلاقى فيه المطلع والختام. في تناسق والتئام.