الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وهو العزيز الغفور ..
ومن آثار تمكنه المطلق من الملك وتصريفه له، وآثار قدرته على كل شيء وطلاقة إرادته.. أنه خلق الموت
[ ص: 3632 ] والحياة. والموت يشمل الموت السابق على الحياة والموت اللاحق لها. والحياة تشمل الحياة الأولى والحياة الآخرة. وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الآية، التي تنشئ هذه الحقيقة في التصور الإنساني; وتثير إلى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. فليست المسألة مصادفة بلا تدبير. وليست كذلك جزافا بلا غاية. إنما هو الابتلاء لإظهار المكنون في علم الله من سلوك الأناسي على الأرض، واستحقاقهم للجزاء على العمل:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا .. واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبدا يقظا حذرا متلفتا واعيا للصغيرة والكبيرة في النية المستسرة والعمل الظاهر. ولا يدعه يغفل أو يلهو. كذلك لا يدعه يطمئن أو يستريح. ومن ثم يجيء التعقيب:
وهو العزيز الغفور ليسكب الطمأنينة في القلب الذي يرعى الله ويخشاه. فالله عزيز غالب ولكنه غفور مسامح. فإذا استيقظ القلب، وشعر أنه هنا للابتلاء والاختبار، وحذر وتوقى، فإن له أن يطمئن إلى غفران الله ورحمته وأن يقر عندها ويستريح!
إن الله في الحقيقة التي يصورها الإسلام لتستقر في القلوب، لا يطارد البشر، ولا يعنتهم، ولا يحب أن يعذبهم. إنما يريد لهم أن يتيقظوا لغاية وجودهم; وأن يرتفعوا إلى مستوى حقيقتهم; وأن يحققوا تكريم الله لهم بنفخة روحه في هذا الكيان وتفضيله على كثير من خلقه. فإذا تم لهم هذا فهناك الرحمة السابغة والعون الكبير والسماحة الواسعة والعفو عن كثير.
ثم يربط هذه الحقيقة بالكون كله في أكبر وأرفع مجاليه; كما يربط به من الناحية الأخرى حقيقة الجزاء في الآخرة، بعد الابتلاء بالموت والحياة:
الذي خلق سبع سماوات طباقا، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت، فارجع البصر هل ترى من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير. ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح، وجعلناها رجوما للشياطين، وأعتدنا لهم عذاب السعير. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم، وبئس المصير. إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها: ألم يأتكم نذير؟ قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء، إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير! .
وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الآية الأولى، ومظاهر للهيمنة المتصرفة في الملك، وللقدرة التي لا يقيدها قيد. ثم هي بعد ذلك تصديق للآية الثانية من خلق الموت والحياة للابتلاء، ثم الجزاء..
والسماوات السبع الطباق التي تشير إليها الآية لا يمكن الجزم بمدلولها، استقاء من نظريات الفلك، فهذه النظريات قابلة للتعديل والتصحيح، كلما تقدمت وسائل الرصد والكشف. ولا يجوز تعليق مدلول الآية بمثل هذه الكشوف القابلة للتعديل والتصحيح. ويكفي أن نعرف أن هناك سبع سماوات. وأنها طباق بمعنى أنها طبقات على أبعاد متفاوتة.
والقرآن يوجه النظر إلى خلق الله، في السماوات بصفة خاصة وفي كل ما خلق بصفة عامة. يوجه النظر إلى خلق الله، وهو يتحدى بكماله كمالا يرد البصر عاجزا كليلا مبهورا مدهوشا.
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت .. فليس هناك خلل ولا نقص ولا اضطراب..
فارجع البصر .. وانظر مرة أخرى للتأكد والتثبت
هل ترى من فطور؟ .. وهل وقع نظرك على شق أو صدع أو خلل؟
ثم [ ص: 3633 ] ارجع البصر كرتين فربما فاتك شيء في النظرة السابقة لم تتبينه، فأعد النظر ثم أعده
ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ..
وأسلوب التحدي من شأنه أن يثير الاهتمام والجد في النظر إلى السماوات وإلى خلق الله كله. وهذه النظرة الحادة الفاحصة المتأملة المتدبرة هي التي يريد القرآن أن يثيرها وأن يبعثها. فبلادة الألفة تذهب بروعة النظرة إلى هذا الكون الرائع العجيب الجميل الدقيق، الذي لا تشبع العين من تملي جماله وروعته، ولا يشبع القلب من تلقي إيحاءاته وإيماءاته; ولا يشبع العقل من تدبر نظامه ودقته. والذي يعيش منه من يتأمله بهذه العين في مهرجان إلهي باهر رائع، لا تخلق بدائعه، لأنها أبدا متجددة للعين والقلب والعقل.
والذي يعرف شيئا عن طبيعة هذا الكون ونظامه - كما كشف العلم الحديث عن جوانب منها - يدركه الدهش والذهول. ولكن روعة الكون لا تحتاج إلى هذا العلم. فمن نعمة الله على البشر أن أودعهم القدرة على التجاوب مع هذا الكون بمجرد النظر والتأمل; فالقلب يتلقى إيقاعات هذا الكون الهائل الجميل تلقيا مباشرا حين يتفتح ويستشرف. ثم يتجاوب مع هذه الإيقاعات تجاوب الحي مع الحي قبل أن يعلم بفكره وبأرصاده شيئا عن هذا الخلق الهائل العجيب.
ومن ثم يكل القرآن الناس إلى النظر في هذا الكون، وإلى تملي مشاهده وعجائبه. ذلك أن القرآن يخاطب الناس جميعا، وفي كل عصر. يخاطب ساكن الغابة وساكن الصحراء، كما يخاطب ساكن المدينة ورائد البحار. وهو يخاطب الأمي الذي لم يقرأ ولم يخط حرفا، كما يخاطب العالم الفلكي والعالم الطبيعي والعالم النظري سواء. وكل واحد من هؤلاء يجد في القرآن ما يصله بهذا الكون، وما يثير في قلبه التأمل والاستجابة والمتاع.
والجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة. فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها:
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ..
وما السماء الدنيا؟ لعلها هي الأقرب إلى الأرض وسكانها المخاطبين بهذا القرآن. ولعل المصابيح المشار إليها هنا هي النجوم والكواكب الظاهرة للعين، التي نراها حين ننظر إلى السماء. فذلك يتسق مع توجيه المخاطبين إلى النظر في السماء. وما كانوا يملكون إلا عيونهم، وما تراه من أجرام مضيئة تزين السماء.
ومشهد النجوم في السماء جميل. ما في هذا شك. جميل جمالا يأخذ بالقلوب. وهو جمال متجدد تتعدد ألوانه بتعدد أوقاته; ويختلف من صباح إلى مساء، ومن شروق إلى غروب، ومن الليلة القمراء إلى الليلة الظلماء. ومن مشهد الصفاء إلى مشهد الضباب والسحاب.. بل إنه ليختلف من ساعة لساعة. ومن مرصد لمرصد. ومن زاوية لزاوية.. وكله جمال وكله يأخذ بالألباب.
هذه النجمة الفريدة التي توصوص هناك، وكأنها عين جميلة، تلتمع بالمحبة والنداء!
وهاتان النجمتان المنفردتان هناك، وقد خلصتا من الزحام تتناجيان!
وهذه المجموعات المتضامة المتناثرة هنا وهناك، وكأنها في حلقة سمر في مهرجان السماء. وهي تجتمع وتفترق كأنها رفاق ليلة في مهرجان!
وهذا القمر الحالم الساهي ليلة. والزاهي المزهو ليلة. والمنكسر الخفيض ليلة. والوليد المتفتح للحياة ليلة. والفاني الذي يدلف للفناء ليلة..!
[ ص: 3634 ] وهذا الفضاء الوسيع الذي لا يمل البصر امتداده، ولا يبلغ البصر آماده.
إنه الجمال. الجمال الذي يملك الإنسان أن يعيشه ويتملاه، ولكن لا يجد له وصفا فيما يملك من الألفاظ والعبارات!
والقرآن يوجه النفس إلى جمال السماء، وإلى جمال الكون كله، لأن إدراك جمال الوجود هو أقرب وأصدق وسيلة لإدراك جمال خالق الوجود. وهذا الإدراك هو الذي يرفع الإنسان إلى أعلى أفق يمكن أن يبلغه، لأنه حينئذ يصل إلى النقطة التي يتهيأ فيها للحياة الخالدة، في عالم طليق جميل، بريء من شوائب العالم الأرضي والحياة الأرضية. وإن أسعد لحظات القلب البشري لهي اللحظات التي يتقبل فيها جمال الإبداع الإلهي في الكون. ذلك أنها هي اللحظات التي تهيئه وتمهد له ليتصل بالجمال الإلهي ذاته ويتملاه.
ويذكر النص القرآني هنا أن هذه المصابيح التي زين الله السماء الدنيا بها هي كذلك ذات وظيفة أخرى:
وجعلناها رجوما للشياطين ..
وقد جرينا في هذه الظلال على قاعدة ألا نتزيد بشيء في أمر الغيبيات التي يقص الله علينا طرفا من خبرها; وأن نقف عند حدود النص القرآني لا نتعداه. وهو كاف بذاته لإثبات ما يعرض له من أمور.
فنحن نؤمن أن هناك خلقا اسمهم الشياطين، وردت بعض صفاتهم في القرآن، وسبقت الإشارة إليها في هذه الظلال، ولا نزيد عليها شيئا ونحن نؤمن أن الله جعل من هذه المصابيح التي تزين السماء الدنيا رجوما للشياطين، في صورة شهب كما جاء في سورة أخرى:
وحفظا من كل شيطان مارد ...
إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب .. كيف؟ من أي حجم؟ في أية صورة؟ كل ذلك لم يقل لنا الله عنه شيئا، وليس لنا مصدر آخر يجوز استفتاؤه في مثل هذا الشأن. فلنعلم هذا وحده ولنؤمن بوقوعه. وهذا هو المقصود. ولو علم الله أن هناك خيرا في الزيادة أو الإيضاح أو التفصيل لفصل سبحانه. فما لنا نحن نحاول ما لم يعلم الله أن فيه خيرا؟: في مثل هذا الأمر. أمر رجم الشياطين؟!
ثم يستطرد فيما أعده الله للشياطين غير الرجوم:
وأعتدنا لهم عذاب السعير ..
فالرجوم في الدنيا وعذاب السعير في الآخرة لأولئك الشياطين. ولعل مناسبة ذكر هذا، الذي أعده الله للشياطين في الدنيا والآخرة هي ذكر السماء أولا، ثم ما يجيء بعد من ذكر الذين كفروا. والعلاقة بين الشياطين والذين كفروا علاقة ملحوظة. فلما ذكر مصابيح السماء ذكر اتخاذها رجوما للشياطين. ولما ذكر ما أعد للشياطين من عذاب السعير ذكر بعده ما أعده للذين كفروا من أتباع هؤلاء الشياطين:
وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير ..
ثم يرسم مشهدا لجهنم هذه، وهي تستقبل الذين كفروا في غيظ وحنق شديد:
إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور. تكاد تميز من الغيظ! ..
وجهنم هنا مخلوقة حية، تكظم غيظها، فترتفع أنفاسها في شهيق وتفور; ويملأ جوانحها الغيظ فتكاد تتمزق من الغيظ الكظيم وهي تنطوي على بغض وكره يبلغ إلى حد الغيظ والحنق على الكافرين!
والتعبير في ظاهره يبدو مجازا تصويريا لحالة جهنم. ولكنه - فيما نحس - يقرر حقيقة. فكل خليقة من خلائق
[ ص: 3635 ] الله حية ذات روح من نوعها. وكل خليقة تعرف ربها وتسبح بحمده وتدهش حين ترى الإنسان يكفر بخالقه، وتتغيظ لهذا الجحود المنكر الذي تنكره فطرتها وتنفر منه روحها. وهذه الحقيقة وردت في القرآن في مواضع شتى تشعر بأنها تقرر حقيقة مكنونة في كل شيء في هذا الوجود.
فقد جاء بصريح العبارة في القرآن:
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وإن من شيء إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم .. وورد كذلك:
يا جبال أوبي معه والطير .. وهي تعبيرات صريحة مباشرة لا مجال فيها للتأويل.
كذلك ورد
ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها قالتا: أتينا طائعين .. مما يحتمل أن يقال فيه إنه مجاز تصويري لحقيقة خضوع السماء والأرض لناموس الله. ولكن هذا التأويل لا ضرورة له. بل هو أبعد من المعنى المباشر الصريح.
ووردت صفة جهنم هذه. كما ورد في موضع آخر تعبير عن دهشة الكائنات وغيظها للشرك بربها:
لقد جئتم شيئا إدا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ..
وكل هذه النصوص تشير إلى حقيقة، حقيقة إيمان الوجود كله بخالقه، وتسبيح كل شيء بحمده. ودهشة الخلائق وارتياعها لشذوذ الإنسان حين يكفر، ويشذ عن هذا الموكب; وتحفز هذه الخلائق للانقضاض على الإنسان في غيظ وحنق; كالذي يطعن في عزيز عليه كريم على نفسه، فيغتاظ ويحنق، ويكاد من الغيظ يتمزق. كما هو حال جهنم وهي:
تفور. تكاد تميز من الغيظ! .
كذلك نلمح هذه الظاهرة في خزنة جهنم:
كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها. ألم يأتكم نذير؟ ..
وواضح أن هذا السؤال في هذا الموضع هو للتأنيب والترذيل. فهي مشاركة لجهنم في الغيظ والحنق. كما هي مشاركة لها في التعذيب، وليس أمر من الترذيل والتأنيب للضائق المكروب!
والجواب في ذلة وانكسار واعتراف بالحمق والغفلة، بعد التبجح والإنكار واتهام الرسل بالضلال:
قالوا: بلى! قد جاءنا نذير فكذبنا، وقلنا: ما نزل الله من شيء. إن أنتم إلا في ضلال كبير. وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير! ..
فالذي يسمع أو يعقل، لا يورد نفسه هذا المورد الوبيء. ولا يجحد بمثل ما جحد به أولئك المناكيد. ولا يسارع باتهام الرسل بالضلال على هذا النحو المتبجح الوقح، الذي لا يستند في الإنكار إلى دليل. ثم ينكر ويدعي ذلك الادعاء العريض على رسل الله الصادقين يقول:
ما نزل الله من شيء: إن أنتم إلا في ضلال كبير !
فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ..
والسحق البعد. وهو دعاء عليهم من الله بعد اعترافهم بذنبهم في الموقف الذي لم يؤمنوا به ولم يصدقوا بوقوعه. والدعاء من الله قضاء. فهم مبعدون من رحمته. لا رجاء لهم في مغفرة، ولا إقالة لهم من عذاب. وهم
أصحاب السعير الملازمون له. ويا لها من صحبة! ويا له من مصير!
وهذا العذاب، عذاب السعير، في جهنم التي تشهق بأنفاسها وهي تفور، عذاب شديد مروع حقا. والله لا يظلم أحدا. ونحسب - والله أعلم - أن النفس التي تكفر بربها - وقد أودع فطرتها حقيقة الإيمان ودليله - هي
[ ص: 3636 ] نفس فرغت من كل خير. كما فرغت من كل صفة تجعل لها اعتبارا في الوجود، فهي كالحجر الذي توقد به جهنم. وقد انتهت إلى نكسة وارتكاس مكانها هذه النار، إلى غير نجاة منها ولا فرار!
والنفس التي تكفر بالله في الأرض تظل تنتكس وترتكس في كل يوم تعيشه، حتى تنتهي إلى صورة بشعة مسيخة شنيعة،
صورة منكرة جهنمية نكيرة. صورة لا يماثلها شيء في هذا الكون في بشاعتها ومسخها وشناعتها. فكل شيء روحه مؤمنة، وكل شيء يسبح بحمد ربه، وكل شيء فيه هذا الخير، وفيه هذه الوشيجة التي تشده إلى محور الوجود.. ما عدا هذه النفوس الشاردة المفلتة من أواصر الوجود، الآبدة الشريرة، الجاسية الممسوخة النفور. فأي مكان في الوجود كله تنتهي إليه، وهي مبتوتة الصلة بكل شيء في الوجود؟ إنها تنتهي إلى جهنم المتغيظة المتلمظة، الحارقة، المهدرة لكل معنى ولكل حق ولكل كرامة; بعد أن لم يعد لتلك النفوس معنى ولا حق ولا كرامة!
والمألوف في سياق القرآن أن يعرض صفحتين متقابلتين في
مشاهد القيامة. فهو يعرض هنا صفحة المؤمنين في مقابل صفحة الكافرين، تتمة لمدلول الآية الثانية في السورة:
ليبلوكم أيكم أحسن عملا .. بذكر الجزاء بعد ذكر الابتلاء:
إن الذين يخشون ربهم بالغيب، لهم مغفرة وأجر كبير ..
والغيب المشار إليه هنا يشمل خشيتهم لربهم الذي لم يروه، كما يشمل خشيتهم لربهم وهم في خفية عن الأعين، وكلاهما معنى كبير، وشعور نظيف، وإدراك بصير. يؤهل لهذا الجزاء العظيم الذي يذكره السياق في إجمال: وهو المغفرة والتكفير، والأجر الكبير.
ووصل القلب بالله في السر والخفية، وبالغيب الذي لا تطلع عليه العيون، هو ميزان الحساسية في القلب البشري وضمانة الحياة للضمير.. قال الحافظ
nindex.php?page=showalam&ids=13863أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا
طالوت بن عباد، حدثنا
الحارث بن عبيد، عن
ثابت، عن
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس، قال:
قالوا: يا رسول الله إنا نكون عندك على حال، فإذا فارقناك كنا على غيره. قال: "كيف أنتم وربكم؟" قالوا: الله ربنا في السر والعلانية. قال: "ليس ذلكم النفاق"..
فالصلة بالله هي الأصل. فمتى انعقدت في القلب فهو مؤمن صادق موصول.
وهذه الآية السابقة تربط ما قبلها في السياق بما بعدها، في تقرير علم الله بالسر والجهر، وهو يتحدى البشر. وهو الذي خلق نفوسهم، ويعلم مداخلها ومكامنها، التي أودعها إياها:
وأسروا قولكم أو اجهروا به، إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير؟ .
أسروا أو اجهروا فهو مكشوف لعلم الله سواء. وهو يعلم ما هو أخفى من الجهر والسر.
إنه عليم بذات الصدور التي لم تفارق الصدور! عليم بها، فهو الذي خلقها في الصدور، كما خلق الصدور!
ألا يعلم من خلق؟ ألا يعلم وهو الذي خلق؟ وهو اللطيف الخبير؟ الذي يصل علمه إلى الدقيق الصغير والخفي المستور.
إن البشر وهم يحاولون التخفي من الله بحركة أو سر أو نية في الضمير، يبدون مضحكين! فالضمير الذي يخفون فيه نيتهم من خلق الله، وهو يعلم دروبه وخفاياه. والنية التي يخفونها هي كذلك من خلقه وهو يعلمها ويعلم أين تكون. فماذا يخفون؟ وأين يستخفون؟
[ ص: 3637 ] والقرآن يعنى بتقرير هذه الحقيقة في الضمير. لأن استقرارها فيه ينشئ له إدراكا صحيحا للأمور. فوق ما يودعه هناك من يقظة وحساسية وتقوى، تناط بها الأمانة التي يحملها المؤمن في هذه الأرض. أمانة العقيدة وأمانة العدالة، وأمانة التجرد لله في العمل والنية. وهو لا يتحقق إلا حين يستيقن القلب أنه هو وما يكمن فيه من سر ونية هو من خلق الله الذي يعلمه الله. وهو اللطيف الخبير..
عندئذ يتقي المؤمن النية المكنونة، والهاجس الدفين، كما يتقي الحركة المنظورة، والصوت الجهير. وهو يتعامل مع الله الذي يعلم السر والجهر، الله الذي خلق الصدور فهو يعلم ما في الصدور.