ثم يعقب على هذه الصفات الذاتية بموقفه من آيات الله، مع التشنيع بهذا الموقف الذي يجزي به نعمة الله عليه بالمال والبنين:
أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين ..
وما أقبح ما يجزي إنسان نعمة الله عليه بالمال والبنين; استهزاء بآياته، وسخرية من رسوله، واعتداء على دينه.. وهذه وحدها تعدل كل ما مر من وصف ذميم.
[ ص: 3664 ] ومن ثم يجيء التهديد من الجبار القهار، يلمس في نفسه موضع الاختيال والفخر بالمال والبنين; كما لمس وصفه من قبل موضع الاختيال بمكانته ونسبه.. ويسمع وعد الله القاطع:
سنسمه على الخرطوم ..
ومن معاني الخرطوم طرف أنف الخنزير البري.. ولعله هو المقصود هنا كناية عن أنفه! والأنف في لغة
العرب يكنى به عن العزة فيقال: أنف أشم للعزيز. وأنف في الرغام للذليل.. أي في التراب! ويقال ورم أنفه وحمي أنفه، إذا غضب معتزا. ومنه الأنفة.. والتهديد بوسمه على الخرطوم يحوي نوعين من الإذلال والتحقير.. الأول الوسم كما يوسم العبد.. والثاني جعل أنفه خرطوما كخرطوم الخنزير!
وما من شك أن وقع هذه الآيات على نفس
الوليد كان قاصما. فهو من أمة كانت تعد هجاء شاعر - ولو بالباطل - مذمة يتوقاها الكريم! فكيف بدمغه بالحق من خالق السماوات والأرض. بهذا الأسلوب الذي لا يبارى.
في هذا السجل الذي تتجاوب بكل لفظ من ألفاظه جنبات الوجود. ثم يستقر في كيان الوجود.. في خلود.. إنها القاصمة التي يستأهلها عدو الإسلام وعدو الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم..
وبمناسبة الإشارة إلى المال والبنين، والبطر الذي يبطره المكذبون، يضرب لهم مثلا بقصة يبدو أنها كانت معروفة عندهم، شائعة بينهم، ويذكرهم فيها بعاقبة البطر بالنعمة، ومنع الخير والاعتداء على حقوق الآخرين; ويشعرهم أن ما بين أيديهم من نعم المال والبنين، إنما هو ابتلاء لهم كما ابتلي أصحاب هذه القصة، وأن له ما بعده، وأنهم غير متروكين لما هم فيه:
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين، ولا يستثنون. فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم. فتنادوا مصبحين: أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين. فانطلقوا وهم يتخافتون: أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. وغدوا على حرد قادرين. فلما رأوها قالوا: إنا لضالون، بل نحن محرومون. قال أوسطهم: ألم أقل لكم لولا تسبحون! قالوا: سبحان ربنا إنا كنا ظالمين. فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا: يا ويلنا إنا كنا طاغين، عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون.. كذلك العذاب، ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ..
وهذه القصة قد تكون متداولة ومعروفة، ولكن السياق القرآني يكشف عما وراء حوادثها من فعل الله وقدرته، ومن ابتلاء وجزاء لبعض عباده. ويكون هذا هو الجديد في سياقها القرآني.
ومن خلال نصوصها وحركاتها نلمح مجموعة من الناس ساذجة بدائية أشبه في تفكيرها وتصورها وحركتها بأهل الريف البسطاء السذج. ولعل هذا المستوى من النماذج البشرية كان أقرب إلى المخاطبين بالقصة، الذين كانوا يعاندون ويجحدون، ولكن نفوسهم ليست شديدة التعقيد، إنما هي أقرب إلى السذاجة والبساطة!
والقصة من ناحية الأداء تمثل إحدى طرق الأداء الفني للقصة في القرآن; وفيه مفاجآت مشوقة، كما أن فيه سخرية بالكيد البشري العاجز أمام تدبير الله وكيده. وفيه حيوية في العرض حتى لكأن السامع - أو القارئ - يشهد القصة حية تقع أحداثها أمامه وتتوالى . فلنحاول أن نراها كما هي في سياقها القرآني:
[ ص: 3665 ] ها نحن أولاء أمام أصحاب الجنة - جنة الدنيا لا جنة الآخرة - وها هم أولاء يبيتون في شأنها أمرا. لقد كان للمساكين حظ من ثمرة هذه الجنة - كما تقول الروايات - على أيام صاحبها الطيب الصالح. ولكن الورثة يريدون أن يستأثروا بثمرها الآن، وأن يحرموا المساكين حظهم.. فلننظر كيف تجري الأحداث إذن!
إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة. إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون .
لقد قر رأيهم على أن يقطعوا ثمرها عند الصباح الباكر، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين. وأقسموا على هذا، وعقدوا النية عليه، وباتوا بهذا الشر فيما اعتزموه.. فلندعهم في غفلتهم أو في كيدهم الذي بيتوه، ولننظر ماذا يجري من ورائهم في بهمة الليل وهم لا يشعرون. فإن الله ساهر لا ينام كما ينامون، وهو يدبر لهم غير ما يدبرون، جزاء على ما بيتوا من بطر بالنعمة ومنع للخير، وبخل بنصيب المساكين المعلوم.. إن هناك مفاجأة تتم في خفية. وحركة لطيفة كحركة الأشباح في الظلام. والناس نيام:
فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون. فأصبحت كالصريم ..
فلندع الجنة وما ألم بها مؤقتا لننظر كيف يصنع المبيتون الماكرون.
ها هم أولاء يصحون مبكرين كما دبروا، وينادي بعضهم بعضا لينفذوا ما اعتزموا:
فتنادوا مصبحين: أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين ..
يذكر بعضهم بعضا ويوصي بعضهم بعضا، ويحمس بعضهم بعضا!
ثم يمضي السياق في السخرية منهم، فيصورهم منطلقين، يتحدثون في خفوت، زيادة في إحكام التدبير، ليحتجنوا الثمر كله لهم، ويحرموا منه المساكين!
فانطلقوا وهم يتخافتون: أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين !!!
وكأنما نحن الذين نسمع القرآن أو نقرؤه نعلم ما لا يعلمه أصحاب الجنة من أمرها.. أجل فقد شهدنا تلك اليد الخفية اللطيفة تمتد إليها في الظلام، فتذهب بثمرها كله. ورأيناها كأنما هي مقطوعة الثمار بعد ذلك الطائف الخفي الرهيب! فلنمسك أنفاسنا إذن، لنرى كيف يصنع الماكرون المبيتون.
إن السياق ما يزال يسخر من الماكرين المبيتين:
وغدوا على حرد قادرين !
أجل إنهم لقادرون على المنع والحرمان.. حرمان أنفسهم على أقل تقدير!!
وها هم أولاء يفاجأون. فلننطلق مع السياق ساخرين. ونحن نشهدهم مفجوئين:
فلما رأوها قالوا: إنا لضالون ..
ما هذه جنتنا الموقرة بالثمار. فقد ضللنا إليها الطريق! .. ولكنهم يعودون فيتأكدون:
بل نحن محرومون ..
وهذا هو الخبر اليقين!
والآن وقد حاقت بهم عاقبة المكر والتبييت، وعاقبة البطر والمنع، يتقدم أوسطهم وأعقلهم وأصلحهم -
[ ص: 3666 ] ويبدو أنه كان له رأي غير رأيهم. ولكنه تابعهم عند ما خالفوه وهو فريد في رأيه، ولم يصر على الحق الذي رآه فناله الحرمان كما نالهم. ولكنه يذكرهم ما كان من نصحه وتوجيهه:
قال أوسطهم: ألم أقل لكم: لولا تسبحون ؟!
والآن فقط يسمعون للناصح بعد فوات الأوان:
قالوا: سبحان ربنا، إنا كنا ظالمين ..
وكما يتنصل كل شريك من التبعة عند ما تسوء العاقبة، ويتوجه باللوم إلى الآخرين.. ها هم أولاء يصنعون:
فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون !
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة. عسى أن يغفر الله لهم، ويعوضهم من الجنة الضائعة على مذبح البطر والمنع والكيد والتدبير:
قالوا: يا ويلنا! إنا كنا طاغين. عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون ..
وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب:
كذلك العذاب. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ..
وكذلك الابتلاء بالنعمة. فليعلم المشركون أهل
مكة. إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ولينظروا ماذا وراء الابتلاء.. ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا:
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون !
وكذلك يسوق إلى
قريش هذه التجربة من واقع البيئة، ومما هو متداول بينهم من القصص، فيربط بين سنته في الغابرين وسنته في الحاضرين; ويلمس قلوبهم بأقرب الأساليب إلى واقع حياتهم. وفي الوقت ذاته يشعر المؤمنين بأن ما يرونه على المشركين - من كبراء
قريش - من آثار النعمة والثروة إنما هو ابتلاء من الله، له عواقبه، وله نتائجه. وسنته أن يبتلي بالنعمة كما يبتلي بالبأساء سواء. فأما المتبطرون المانعون للخير المخدوعون بما هم فيه من نعيم، فذلك كان مثلا لعاقبتهم:
ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون .. وأما المتقون الحذرون فلهم عند ربهم جنات النعيم:
إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ..
وهو التقابل في العاقبة، كما أنه التقابل في المسلك والحقيقة.. تقابل النقيضين اللذين اختلفت بهما الطريق، فاختلفت بهما خاتمة الطريق!
وعند هاتين الخاتمتين يدخل معهم في جدل لا تعقيد فيه كذلك ولا تركيب. ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال عن أمور ليس لها إلا جواب واحد يصعب المغالطة فيه; ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم؟ كيف تحكمون؟ أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون؟ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟ سلهم أيهم بذلك زعيم؟ أم لهم شركاء؟ [ ص: 3667 ] فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين. يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون. فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين. أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون؟ أم عندهم الغيب فهم يكتبون ؟!
والتهديد بعذاب الآخرة وحرب الدنيا يجيء - كما نرى - في خلال ذلك الجدل، وهذا التحدي. فيرفع من حرارة الجدل، ويزيد من ضغط التحدي.
والسؤال الاستنكاري الأول:
أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ يعود إلى عاقبة هؤلاء وهؤلاء التي عرضها في الآيات السابقة. وهو سؤال ليس له إلا جواب واحد.. لا. لا يكون. فالمسلمون المذعنون المستسلمون لربهم، لا يكونون أبدا كالمجرمين الذين يأتون الجريمة عن لجاج يسمهم بهذا الوصف الذميم! وما يجوز في عقل ولا في عدل أن يتساوى المسلمون والمجرمون في جزاء ولا مصير.
ومن ثم يجيء السؤال الاستنكاري الآخر:
ما لكم؟ كيف تحكمون؟ .. ماذا بكم؟ وعلام تبنون أحكامكم؟ وكيف تزنون القيم والأقدار؟ حتى يستوي في ميزانكم وحكمكم من يسلمون ومن يجرمون؟!
ومن الاستنكار والإنكار عليهم ينتقل إلى التهكم بهم والسخرية منهم:
أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون؟ .. فهو التهكم والسخرية أن يسألهم إن كان لهم كتاب يدرسونه، هو الذي يستمدون منه مثل ذلك الحكم الذي لا يقبله عقل ولا عدل; وهو الذي يقول لهم: إن المسلمين كالمجرمين! إنه كتاب مضحك يوافق هواهم ويملق رغباتهم، فلهم فيه ما يتخيرون من الأحكام وما يشتهون! وهو لا يرتكن إلى حق ولا إلى عدل، ولا إلى معقول أو معروف!
أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟ .. فإن لا يكن ذلك فهو هذا. وهو أن تكون لهم مواثيق على الله، سارية إلى يوم القيامة، مقتضاها أن لهم ما يحكمون، وما يختارون وفق ما يشتهون! وليس من هذا شيء. فلا عهود لهم عند الله ولا مواثيق. فعلام إذن يتكلمون؟! وإلام إذن يستندون؟!
سلهم أيهم بذلك زعيم؟ .. سلهم من منهم المتعهد بهذا؟ من منهم المتعهد بأن لهم على الله ما يشاءون، وأن لهم ميثاقا عليه ساري المفعول إلى يوم القيامة أن لهم ما يحكمون؟!
وهو تهكم ساخر عميق بليغ يذيب الوجوه من الحرج والتحدي السافر المكشوف!
أم لهم شركاء؟ فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين ..
وهم كانوا يشركون بالله. ولكن التعبير يضيف الشركاء إليهم لا لله. ويتجاهل أن هناك شركاء. ويتحداهم أن يدعوا شركاءهم هؤلاء إن كانوا صادقين.. ولكن متى يدعونهم؟
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون ..
فيقفهم وجها لوجه أمام هذا المشهد كأنه حاضر اللحظة ، وكأنه يتحداهم فيه أن يأتوا بشركائهم المزعومين. وهذا اليوم حقيقة حاضرة في علم الله لا تتقيد في علمه بزمن. واستحضارها للمخاطبين على هذا النحو يجعل وقعها عميقا حيا حاضرا في النفوس على طريقة القرآن الكريم.
والكشف عن الساق كناية - في تعبيرات اللغة العربية المأثورة - عن الشدة والكرب. فهو يوم القيامة الذي
[ ص: 3668 ] يشمر فيه عن الساعد ويكشف فيه عن الساق، ويشتد الكرب والضيق.. ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود، إما لأن وقته قد فات، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون:
مهطعين مقنعي رءوسهم وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم! وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف..
ثم يكمل رسم هيئتهم:
خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة .. هؤلاء المتكبرون المتبجحون. والأبصار الخاشعة والذلة المرهقة هما المقابلان للهامات الشامخة والكبرياء المنفوخة. وهي تذكر بالتهديد الذي جاء في أول السورة:
سنسمه على الخرطوم .. فإيحاء الذلة والانكسار ظاهر عميق مقصود!
وبينما هم في هذا الموقف المرهق الذليل، يذكرهم بما جرهم إليه من إعراض واستكبار:
وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون .. قادرون على السجود. فكانوا يأبون ويستكبرون.. كانوا. فهم الآن في ذلك المشهد المرهق الذليل. والدنيا وراءهم. وهم الآن يدعون إلى السجود فلا يستطيعون!
وبينما هم في هذا الكرب، يجيئهم التهديد الرعيب الذي يهد القلوب:
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث ..
وهو تهديد مزلزل.. والجبار القهار القوي المتين يقول للرسول - صلى الله عليه وسلم - : خل بيني وبين من يكذب بهذا الحديث. وذرني لحربه فأنا به كفيل!
ومن هو هذا الذي يكذب بهذا الحديث؟
إنه ذلك المخلوق الصغير الهزيل المسكين الضعيف! هذه النملة المضعوفة. بل هذه الهباءة المنثورة.. بل هذا العدم الذي لا يعني شيئا أمام جبروت الجبار القهار العظيم!
فيا
محمد. خل بيني وبين هذا المخلوق. واسترح أنت ومن معك من المؤمنين. فالحرب معي لا معك ولا مع المؤمنين. الحرب معي. وهذا المخلوق عدوي، وأنا سأتولى أمره فدعه لي، وذرني معه، واذهب أنت ومن معك فاستريحوا!
أي هول مزلزل للمكذبين! وأي طمأنينة للنبي والمؤمنين.. المستضعفين..؟
ثم يكشف لهم الجبار القهار عن خطة الحرب مع هذا المخلوق الهزيل الصغير الضعيف!
سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين ..
وإن شأن المكذبين، وأهل الأرض أجمعين، لأهون وأصغر من أن يدبر الله لهم هذه التدابير.. ولكنه - سبحانه - يحذرهم نفسه ليدركوا أنفسهم قبل فوات الأوان. وليعلموا أن الأمان الظاهر الذي يدعه لهم هو الفخ الذي يقعون فيه وهم غارون. وأن إمهالهم على الظلم والبغي والإعراض والضلال هو استدراج لهم إلى أسوأ مصير. وأنه تدبير من الله ليحملوا أوزارهم كاملة، ويأتوا إلى الموقف مثقلين بالذنوب، مستحقين للخزي والرهق والتعذيب..
وليس أكبر من التحذير، وكشف الاستدراج والتدبير، عدلا ولا رحمة. والله سبحانه يقدم لأعدائه وأعداء دينه ورسوله عدله ورحمته في هذا التحذير وذلك النذير. وهم بعد ذلك وما يختارون لأنفسهم، فقد كشف القناع ووضحت الأمور!
إنه سبحانه يمهل ولا يهمل. ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وهو هنا يكشف عن طريقته وعن سنته
[ ص: 3669 ] التي قدرها بمشيئته. ويقول لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ذرني ومن يكذب بهذا الحديث، وخل بيني وبين المعتزين بالمال والبنين والجاه والسلطان. فسأملي لهم، وأجعل هذه النعمة فخهم! فيطمئن رسوله، ويحذر أعداءه.. ثم يدعهم لذلك التهديد الرعيب!