وفي ظل مشهد القيامة المكروب وظل هذا التهديد المرهوب يكمل الجدل والتحدي والتعجيب من موقفهم الغريب:
أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون؟ ..
فثقل الغرامة التي تطلبها منهم أجرا على الهداية هو الذي يدفعهم إلى الإعراض والتكذيب، ويجعلهم يؤثرون ذلك المصير البشع، على فداحة ما يؤدون؟!
أم عندهم الغيب فهم يكتبون؟ ..
ومن ثم فهم على ثقة مما في الغيب، فلا يخيفهم ما ينتظرهم فيه، فقد اطلعوا عليه وكتبوه وعرفوه؟ أو أنهم هم الذين كتبوا ما فيه. فكتبوه ضامنا لما يشتهون؟
ولا هذا ولا ذاك؟ فما لهم يقفون هذا الموقف الغريب المريب؟!
وبذلك التعبير العجيب الموحي الرعيب:
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث .. وبالإعلان عن خطة المعركة والكشف عن سنة الحرب بين الله وأعدائه المخدوعين.. بهذا وذلك يخلي الله النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين من المعركة بين الإيمان والكفر. وبين الحق والباطل. فهي معركته - سبحانه - وهي حربه التي يتولاها بذاته.
والأمر كذلك في حقيقته، مهما بدا أن للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين دورا في هذه الحرب أصيلا. إن دورهم حين ييسره الله لهم هو طرف من قدر الله في حربه مع أعدائه. فهم أداة يفعل الله بها أو لا يفعل. وهو في الحالين فعال لما يريد. وهو في الحالين يتولى المعركة بذاته وفق سنته التي يريد.
وهذا النص نزل والنبي - صلى الله عليه وسلم - في
مكة، والمؤمنون معه قلة لا تقدر على شيء. فكانت فيه الطمأنينة للمستضعفين، والفزع للمغترين بالقوة والجاه والمال والبنين. ثم تغيرت الأحوال والأوضاع في
المدينة. وشاء الله أن يكون للرسول ومن معه من المؤمنين دور ظاهر في المعركة. ولكنه هنالك أكد لهم ذلك القول الذي قاله لهم وهم في
مكة قلة مستضعفون. وقال لهم وهم منتصرون في
بدر: فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا، إن الله سميع عليم ..
وذلك ليقر في قلوبهم هذه الحقيقة. حقيقة أن المعركة معركته هو سبحانه. وأن الحرب حربه هو سبحانه. وأن القضية قضيته هو سبحانه. وأنه حين يجعل لهم فيها دورا فإنما ذلك ليبليهم منه بلاء حسنا. وليكتب لهم بهذا البلاء أجرا. أما حقيقة الحرب فهو الذي يتولاها. وأما حقيقة النصر فهو الذي يكتبها.. وهو سبحانه يجريها بهم وبدونهم. وهم حين يخوضونها أداة لقدرته ليست هي الأداة الوحيدة في يده!
وهي حقيقة واضحة من خلال النصوص القرآنية في كل موضع، وفي كل حال، وفي كل وضع. كما أنها هي الحقيقة التي تتفق مع التصور الإيماني لقدرة الله وقدره، ولسنته ومشيئته، ولحقيقة القدرة البشرية التي تنطلق لتحقيق قدر الله.. أداة.. ولن تزيد على أن تكون أداة..
[ ص: 3670 ] وهي حقيقة تسكب الطمأنينة في قلب المؤمن، في حالتي قوته وضعفه على السواء. ما دام يخلص قلبه لله، ويتوكل في جهاده على الله. فقوته ليست هي التي تنصره في معركة الحق والباطل والإيمان والكفر، إنما هو الله الذي يكفل له النصر. وضعفه لا يهزمه لأن قوة الله من ورائه وهي التي تتولى المعركة وتكفل له النصر. ولكن الله يملي ويستدرج ويقدر الأمور في مواقيتها وفق مشيئته وحكمته، ووفق عدله ورحمته.
كما أنها حقيقة تفزع قلب العدو، سواء كان المؤمن أمامه في حالة ضعف أم في حالة قوة. فليس المؤمن هو الذي ينازله، إنما هو الله الذي يتولى المعركة بقوته وجبروته. الله الذي يقول لنبيه
فذرني ومن يكذب بهذا الحديث وخل بيني وبين هذا البائس المتعوس! والله يملي ويستدرج فهو في الفخ الرعيب المفزع المخيف، ولو كان في أوج قوته وعدته. فهذه القوة هي ذاتها الفخ وهذه العدة هي ذاتها المصيدة..
وأملي لهم إن كيدي متين ! أما متى يكون. فذلك علم الله المكنون! فمن يأمن غيب الله ومكره؟ وهل يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون؟
وأمام هذه الحقيقة يوجه الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبر. الصبر على تكاليف الرسالة. والصبر على التواءات النفوس. والصبر على الأذى والتكذيب. الصبر حتى يحكم الله في الوقت المقدر كما يريد. ويذكره بتجربة أخ له من قبل ضاق صدره بهذه التكاليف، فلولا أن تداركته نعمة الله لنبذ وهو مذموم:
فاصبر لحكم ربك، ولا تكن كصاحب الحوت. إذ نادى وهو مكظوم. لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم. فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ..
وصاحب الحوت هو
يونس - عليه السلام - كما جاء في سورة الصافات. وملخص تجربته التي يذكر الله بها
محمدا - صلى الله عليه وسلم - لتكون له زادا ورصيدا، وهو خاتم النبيين، الذي سبقته تجارب النبيين أجمعين في حقل الرسالة، ليكون هو صاحب الحصاد الأخير، وصاحب الرصيد الأخير، وصاحب الزاد الأخير. فيعينه هذا على عبئه الثقيل الكبير. عبء هداية البشرية جميعها لا قبيلة ولا قرية ولا أمة. وعبء هداية الأجيال جميعها لا جيل واحد ولا قرن واحد كما كانت مهمة الرسل قبله. وعبء إمداد البشرية بعده بكل أجيالها وكل أقوامها بمنهج دائم ثابت صالح لتلبية ما يجد في حياتها من أحوال وأوضاع وتجارب. وكل يوم يأتي بجديد..
ملخص تلك التجربة أن
يونس بن متى - سلام الله عليه - أرسله الله إلى أهل قرية. قيل اسمها
نينوى بالموصل. فاستبطأ إيمانهم، وشق عليه تلكؤهم، فتركهم مغاضبا قائلا في نفسه: إن الله لن يضيق علي بالبقاء بين هؤلاء المتعنتين المعاندين، وهو قادر على أن يرسلني إلى قوم آخرين! وقد قاده الغضب والضيق إلى شاطئ البحر، حيث ركب سفينته، فلما كانوا في وسط اللج ثقلت السفينة وتعرضت للغرق. فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم لتخف السفينة.. فكانت القرعة على
يونس. فألقوه في اليم. فابتلعه الحوت.
عندئذ نادى
يونس - وهو كظيم - في هذا الكرب الشديد في الظلمات في بطن الحوت، وفي وسط اللجة، نادى ربه:
لا إله إلا أنت سبحانك! إني كنت من الظالمين فتداركته نعمة من ربه، فنبذه الحوت على الشاطئ.. لحما بلا جلد.. ذاب جلده في بطن الحوت. وحفظ الله حياته بقدرته التي لا يقيدها قيد من مألوف البشر المحدود!
[ ص: 3671 ] وهنا يقول: إنه لولا هذه النعمة لنبذه الحوت وهو مذموم. أي مذموم من ربه.. على فعلته. وقلة صبره. وتصرفه في شأن نفسه قبل أن يأذن الله له. ولكن نعمة الله وقته هذا، وقبل الله تسبيحه واعترافه وندمه. وعلم منه ما يستحق عليه النعمة والاجتباء.
فاجتباه ربه فجعله من الصالحين ..
هذه هي التجربة التي مر بها صاحب الحوت. يذكر الله بها رسوله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - في موقف العنت والتكذيب. بعد ما أخلاه من المعركة كما هي الحقيقة، وأمره بتركها له يتولاها كما يريد. وقتما يريد. وكلفه الصبر لحكم الله وقضائه في تحديد الموعد، وفي مشقات الطريق حتى يحين الموعد المضروب!
إن مشقة الدعوة الحقيقية هي مشقة الصبر لحكم الله، حتى يأتي موعده، في الوقت الذي يريده بحكمته. وفي الطريق مشقات كثيرة. مشقات التكذيب والتعذيب. ومشقات الالتواء والعناد. ومشقات انتفاش الباطل وانتفاخه. ومشقات افتتان الناس بالباطل المزهو المنتصر فيما تراه العيون. ثم مشقات إمساك النفس على هذا كله راضية مستقرة مطمئنة إلى وعد الله الحق، لا ترتاب ولا تتردد في قطع الطريق، مهما تكن مشقات الطريق.. وهو جهد ضخم مرهق يحتاج إلى عزم وصبر ومدد من الله وتوفيق.. أما المعركة ذاتها فقد قضى الله فيها، وقدر أنه هو الذي يتولاها، كما قدر أنه يملي ويستدرج لحكمة يراها. كذلك وعد نبيه الكريم، فصدقه الوعد بعد حين.
وفي الختام يرسم مشهدا للكافرين وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم، في غيظ عنيف، وحسد عميق ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه، ويصفها القرآن بما لا مزيد عليه:
وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر. ويقولون: إنه لمجنون .
فهذه النظرات تكاد تؤثر في أقدام الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتجعلها تزل وتزلق وتفقد توازنها على الأرض وثباتها! وهو تعبير فائق عما تحمله هذه النظرات من غيظ وحنق وشر وحسد ونقمة وضغن، وحمى وسم.. مصحوبة هذه النظرات المسمومة المحمومة بالسب القبيح، والشتم البذيء، والافتراء الذميم:
ويقولون: إنه لمجنون ..
وهو مشهد تلتقطه الريشة المبدعة وتسجله من مشاهد الدعوة العامة في
مكة. فهو لا يكون إلا في حلقة عامة بين كبار المعاندين المجرمين، الذين ينبعث من قلوبهم وفي نظراتهم كل هذا الحقد الذميم المحموم!
يعقب عليه بالقول الفصل الذي ينهي كل قول:
وما هو إلا ذكر للعالمين .
والذكر لا يقوله مجنون، ولا يحمله مجنون..
وصدق الله وكذب المفترون..
ولا بد قبل نهاية الحديث من لفتة إلى كلمة "للعالمين".. هنا والدعوة في
مكة تقابل بذلك الجحود، ويقابل رسولها بتلك النظرات المسمومة المحمومة، ويرصد المشركون لحربها كل ما يملكون.. وهي في هذا الوقت المبكر، وفي هذا الضيق المستحكم، تعلن عن عالميتها. كما هي طبيعتها وحقيقتها. فلم تكن هذه الصفة جديدة عليها حين انتصرت في
المدينة - كما يدعي المفترون اليوم - إنما كانت صفة مبكرة في أيام
مكة الأولى. لأنها
[ ص: 3672 ] حقيقة ثابتة في صلب هذه الدعوة منذ نشأتها.
كذلك أرادها الله. وكذلك اتجهت منذ أيامها الأولى. وكذلك تتجه إلى آخر الزمان. والله الذي أرادها كما أرادها هو صاحبها وراعيها. وهو المدافع عنها وحاميها. وهو الذي يتولى المعركة مع المكذبين. وليس على أصحابها إلا الصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين..