صفحة جزء
أولئك في جنات مكرمون ..

ويجمع هذا النص القصير بين لون من النعيم الحسي ولون من النعيم الروحي. فهم في جنات. وهم يلقون الكرامة في هذه الجنات. فتجتمع لهم اللذة بالنعيم مع التكريم، جزاء على هذا الخلق الكريم، الذي يتميز به المؤمنون.

ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن. ثم يتفرقون حواليه جماعات. ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون:

فمال الذين كفروا قبلك مهطعين؟ عن اليمين وعن الشمال عزين؟ ..

المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود. و"عزين" جمع عزة كفئة وزنا ومعنى.. وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها. وتعجب منهم. وتساؤل عن هذا الحال منهم! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون!

ما لهم؟ أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم؟ ..

وهم على هذه الحال التي لا تؤدي إلى جنة نعيم، إنما تؤدي إلى لظى مأوى المجرمين!

ألعلهم يحسبون أنفسهم شيئا عظيما عند الله فهم يكفرون ويؤذون الرسول، ويسمعون القرآن ويتناجون بالكيد. ثم يدخلون الجنة بعد هذا كله لأنهم في ميزان الله شيء عظيم؟!.

[ ص: 3703 ] "كلا!" في ردع وفي تحقير.. إنا خلقناهم مما يعلمون !

وهم يعلمون مم خلقوا! من ذلك الماء المهين الذي يعرفون! والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الخفية العميقة في الوقت ذاته فيمسح بها كبرياءهم مسحا، وينكس بها خيلاءهم تنكيسا، دون لفظة واحدة نابية، أو تعبير واحد جارح. بينما هذه الإشارة العابرة تصور الهوان والزهادة والرخص أكمل تصوير! فكيف يطمعون أن يدخلوا جنة نعيم على الكفر وسوء الصنيع؟ وهم مخلوقون مما يعلمون! وهم أهون على الله من أن تكون لهم دالة عليه، وخرق لسنته في الجزاء العادل باللظى وبالنعيم.

واستطرادا في تهوين أمرهم، وتصغير شأنهم، وتنكيس كبريائهم، يقرر أن الله قادر على أن يخلق خيرا منهم، وأنهم لا يعجزونه فيذهبون دون ما يستحقون من جزاء أليم:

فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون، على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين .

والأمر ليس في حاجة إلى قسم. ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب، يوحي بعظمة الخالق. والمشارق والمغارب قد تعني مشارق النجوم الكثيرة ومغاربها في هذا الكون الفسيح. كما أنها قد تعني المشارق والمغارب المتوالية على بقاع الأرض. وهي تتوالى في كل لحظة. ففي كل لحظة أثناء دوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يطلع مشرق ويختفي مغرب ...

وأيا كان مدلول المشارق والمغارب، فهو يوحي إلى القلب بضخامة هذا الوجود، وبعظمة الخالق لهذا الوجود. فهل يحتاج أمر أولئك المخلوقين مما يعلمون إلى قسم برب المشارق والمغارب، على أنه - سبحانه - قادر على أن يخلق خيرا منهم، وأنهم لا يسبقونه ولا يفوتونه ولا يهربون من مصيرهم المحتوم؟!.

وعند ما يبلغ السياق هذا المقطع، بعد تصوير هول العذاب في ذلك اليوم المشهود; وكرامة النعيم للمؤمنين، وهو أن شأن الكافرين. يتجه بالخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب، ويرسم مشهدهم فيه، وهو مشهد مكروب ذليل:

فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون. يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ..

وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم، ومن التهديد لهم، ما يثير الخوف والترقب. وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم ما يثير الفزع والتخوف. كما أن في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزازهم بأنفسهم واغترارهم بمكانتهم..

فهؤلاء الخارجون من القبور يسرعون الخطى كأنما هم ذاهبون إلى نصب يعبدونه.. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا. لقد كانوا يسارعون إلى الأنصاب في الأعياد ويتجمعون حولها. فهاهم أولاء يسارعون اليوم، ولكن شتان بين يوم ويوم!

ثم تتم سماتهم بقوله: خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة فنلمح من خلال الكلمات سيماهم كاملة، وترتسم لنا من قسماتهم صورة واضحة. صورة ذليلة عانية.. لقد كانوا يخوضون ويلعبون فهم اليوم أذلاء مرهقون..

ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون .

فكانوا يستريبون فيه ويكذبون ويستعجلون!

[ ص: 3704 ] بهذا يلتئم المطلع والختام، وتتم هذه الحلقة من حلقات العلاج الطويل لقضية البعث والجزاء، وتنتهي هذه الجولة من جولات المعركة الطويلة بين التصور الجاهلي والتصور الإسلامي للحياة.

التالي السابق


الخدمات العلمية