إنا سمعنا قرآنا عجبا ..
فأول ما بدههم منه أنه "عجب" غير مألوف، وأنه يثير الدهش في القلوب، وهذه صفة القرآن عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح، ومشاعر مرهفة، وذوق ذواق.. عجب! ذو سلطان متسلط، وذو جاذبية غلابة، وذو إيقاع يلمس المشاعر ويهز أوتار القلوب.. عجب! فعلا. يدل على أن أولئك النفر من الجن كانوا حقيقة يتذوقون!
يهدي إلى الرشد ..
وهذه هي الصفة الثانية البارزة كذلك في هذا القرآن، والتي أحسها النفر من الجن، حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم.. وكلمة الرشد في ذاتها ذات دلالة واسعة المدى. فهو يهدي إلى الهدى والحق والصواب. ولكن كلمة الرشد تلقي ظلا آخر وراء هذا كله. ظل النضوج والاستواء والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب. ظل الإدراك الذاتي البصير لهذه الحقائق والمقومات، فهو ينشئ حالة ذاتية في النفس تهتدي بها إلى الخير والصواب.
والقرآن يهدي إلى الرشد بما ينشئه في القلب من تفتح وحساسية، وإدراك ومعرفة، واتصال بمصدر النور والهدى، واتساق مع النواميس الإلهية الكبرى. كما يهدي إلى الرشد بمنهجه التنظيمي للحياة وتصريفها. هذا المنهج الذي لم تبلغ البشرية في تاريخها كله، في ظل حضارة من الحضارات، أو نظام من الأنظمة، ما بلغته في ظله أفرادا وجماعات، قلوبا ومجتمعات، أخلاقا فردية ومعاملات اجتماعية.. على السواء.
فآمنا به ..
وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن، وإدراك طبيعته، والتأثر بحقيقته.. يعرضها الوحي على المشركين الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون. وفي الوقت ذاته ينسبونه إلى الجن، فيقولون: كاهن أو شاعر أو مجنون.. وكلها صفات للجن فيها تأثير. وهؤلاء هم الجن مبهورين بالقرآن مسحورين متأثرين أشد التأثر، منفعلين أشد الانفعال، لا يملكون أنفسهم من الهزة التي ترج كيانهم رجا.. ثم يعرفون الحق، فيستجيبون له مذعنين معلنين هذا الإذعان:
فآمنا به غير منكرين لما مس نفوسهم منه ولا معاندين، كما كان المشركون يفعلون!
ولن نشرك بربنا أحدا ..
فهو الإيمان الخالص الصريح الصحيح. غير مشوب بشرك، ولا ملتبس بوهم، ولا ممتزج بخرافة، الإيمان الذي ينبعث من إدراك حقيقة القرآن، والحقيقة التي يدعو إليها القرآن، حقيقة التوحيد لله بلا شريك.
وأنه تعالى جد ربنا، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ..
والجد: الحظ والنصيب. وهو القدر والمقام. وهو العظمة والسلطان.. وكلها إشعاعات من اللفظ تناسب المقام. والمعنى الإجمالي منها في الآية هو التعبير عن الشعور باستعلاء الله - سبحانه - وبعظمته وجلاله عن أن يتخذ صاحبة - أي زوجة - وولدا بنين أو بنات!
وكانت
العرب تزعم أن الملائكة بنات الله، جاءته من صهر مع الجن! فجاءت الجن تكذب هذه الخرافة
[ ص: 3728 ] الأسطورية في تسبيح لله وتنزيه، واستنكاف من هذا التصور أن يكون! وكانت الجن حرية أن تفخر بهذا الصهر الخرافي الأسطوري لو كان يشبه أن يكون! فهي قذيفة ضخمة تطلق على ذلك الزعم الواهي في تصورات المشركين! وكل تصور يشبه هذه التصورات، ممن زعموا أن لله ولدا - سبحانه - في أية صورة وفي أي تصوير!
وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ..
وهذه مراجعة من الجن لما كانوا يسمعون من سفهائهم من الشرك بالله، وادعاء الصاحبة والولد والشريك، بعد ما تبين لهم من سماع القرآن أنه لم يكن حقا ولا صوابا، وأن قائليه إذن سفهاء فيهم خرق وجهل; وهم يعللون تصديقهم لهؤلاء السفهاء من قبل بأنهم كانوا لا يتصورون أن أحدا يمكن أن يكذب على الله من الإنس أو الجن. فهم يستعظمون ويستهولون أن يجرؤ أحد على الكذب على الله. فلما قال لهم سفهاؤهم: إن لله صاحبة وولدا، وإن له شريكا صدقوهم، لأنهم لم يتصوروا أنهم يكذبون على الله أبدا.. وهذا الشعور من هؤلاء النفر بنكارة الكذب على الله، هو الذي أهلهم للإيمان. فهو دلالة على أن قلوبهم نظيفة مستقيمة إنما جاءها الضلال من الغرارة والبراءة! فلما مسها الحق انتفضت، وأدركت، وتذوقت وعرفت. وكان منهم هذا الهتاف المدوي:
إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا. وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ..
وهذه الانتفاضة من مس الحق، جديرة بأن تنبه قلوبا كثيرة مخدوعة في كبراء
قريش، وزعمهم أن لله شركاء أو صاحبة وولدا. وأن تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة، والبحث عن الحقيقة فيما يقوله
محمد - صلى الله عليه وسلم - وما يقوله كبراء
قريش، وأن تزلزل الثقة العمياء في مقالات السفهاء من الكبراء! وقد كان هذا كله مقصودا بذكر هذه الحقيقة. وكان جولة من المعركة الطويلة بين القرآن وبين قريش العصية المعاندة; وحلقة من حلقات العلاج البطيء لعقابيل الجاهلية وتصوراتها في تلك القلوب. التي كان الكثير منها غرا بريئا، ولكنه مضلل مقود بالوهم والخرافة وأضاليل المضللين من القادة الجاهليين!
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ..
وهذه إشارة من الجن إلى ما كان متعارفا في الجاهلية - وما يزال متعارفا إلى اليوم في بيئات كثيرة - من أن للجن سلطانا على الأرض وعلى الناس، وأن لهم قدرة على النفع والضر، وأنهم محكمون في مناطق من الأرض أو البحر أو الجو.. إلى آخر هذه التصورات. مما كان يقتضي القوم إذا باتوا في فلاة أو مكان موحش، أن يستعيذوا بسيد الوادي من سفهاء قومه، ثم يبيتون بعد ذلك آمنين!
والشيطان مسلط على قلوب بني
آدم - إلا من اعتصم بالله فهو في نجوة منه - وأما من يركن إليه فهو لا ينفعه. فهو له عدو. إنما يرهقه ويؤذيه.. وهؤلاء النفر من الجن يحكون ما كان يحدث:
وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا .. ولعل هذا الرهق هو الضلال والقلق والحيرة التي تنوش قلوب من يركنون إلى عدوهم، ولا يعتصمون بالله منه ويستعيذون! كما هم مأمورون منذ أبيهم آدم وما كان بينه وبين إبليس من العداء القديم!
والقلب البشري حين يلجأ إلى غير الله، طمعا في نفع، أو دفعا لضر، لا يناله إلا القلق والحيرة، وقلة الاستقرار والطمأنينة ... وهذا هو الرهق في أسوأ صوره.. الرهق الذي لا يشعر معه القلب بأمن ولا راحة!
إن كل شيء - سوى الله - وكل أحد، متقلب غير ثابت، ذاهب غير دائم، فإذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب ويتوقع ويتوجس; وعاد يغير اتجاهه كلما ذهب هذا الذي عقد به رجاءه. والله وحده هو
[ ص: 3729 ] الباقي الذي لا يزول. الحي الذي لا يموت. الدائم الذي لا يتغير. فمن اتجه إليه اتجه إلى المستقر الثابت الذي لا يزول ولا يحول:
وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ..
يتحدثون إلى قومهم، عن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن، يقولون: إنهم كانوا يظنون - كما أنكم تظنون - أن الله لن يبعث رسولا. ولكن ها هو ذا قد بعث رسولا، بهذا القرآن الذي يهدي إلى الرشد.. أو أنهم ظنوا أنه لن يكون هناك بعث ولا حساب - كما ظننتم - فلم يعملوا للآخرة شيئا، وكذبوا ما وعدهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أمرها، لأنهم كانوا لا يعتقدون من قبل فيها.
وكلا الظنين لا ينطبق على الحقيقة، وفيه جهل وقلة إدراك لحكمة الله في خلق البشر. فقد خلقهم باستعداد مزدوج للخير والشر والهدى والضلال (كما نعرف من هذه السورة أن للجن هذه الطبيعة المزدوجة كذلك إلا من تمحض منهم للشر كإبليس، وطرد من رحمة الله بمعصيته الفاجرة، وانتهى إلى الشر الخالص بلا ازدواج) ومن ثم اقتضت رحمة الله أن يعين أولئك البشر بالرسل، يستجيشون في نفوسهم عنصر الخير، ويستنقذون ما في فطرتهم من استعداد للهدى. فلا مجال للاعتقاد بأنه لن يبعث إليهم أحدا.
هذا إذا كان المعنى هو بعث الرسل. فأما بعث الآخرة فهو ضرورة كذلك لهذه النشأة التي لا تستكمل حسابها في الحياة الدنيا، لحكمة أرادها الله، وتتعلق بتنسيق للوجود يعلمه ولا نعلمه; فجعل البعث في الآخرة لتستوفي الخلائق حسابها، وتنتهي إلى ما تؤهلها له سيرتها الأولى في الحياة الدنيا. فلا مجال للظن بأنه لن يبعث أحدا من الناس. فهذا الظن مخالف للاعتقاد في حكمة الله وكماله. سبحانه وتعالى..
وهؤلاء النفر من الجن يصححون لقومهم ظنهم، والقرآن في حكايته عنهم يصحح للمشركين أوهامهم.
ويمضي الجن في حكاية ما لقوه وما عرفوه من شأن هذه الرسالة في جنبات الكون، وفي أرجاء الوجود، وفي أحوال السماء والأرض، لينفضوا أيديهم من كل محاولة لا تتفق مع إرادة الله بهذه الرسالة، ومن كل ادعاء بمعرفة الغيب، ومن كل قدرة على شيء من هذا الأمر:
وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا. وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا. وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا؟ ..
وهذه الوقائع التي حكاها القرآن عن الجن من قولهم، توحي بأنهم قبل هذه الرسالة الأخيرة - ربما في الفترة بينها وبين الرسالة التي قبلها وهي رسالة عيسى عليه السلام - كانوا يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى، واستراق شيء مما يدور فيه، بين الملائكة، عن شؤون الخلائق في الأرض، مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله وقدره. ثم يوحون بما التقطوه لأوليائهم من الكهان والعرافين، ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة إبليس! على أيدي هؤلاء الكهان والعرافين الذين يستغلون القليل من الحق فيمزجونه بالكثير من الباطل، ويروجونه بين جماهير الناس في الفترة بين الرسالتين، وخلو الأرض من رسول.. أما كيفية هذا وصورته فلم يقل لنا عنها شيئا، ولا ضرورة لتقصيها. إنما هي جملة هذه الحقيقة وفحواها.
وهذا النفر من الجن يقول: إن استراق السمع لم يعد ممكنا، وإنهم حين حاولوه الآن - وهو ما يعبرون
[ ص: 3730 ] عنه بلمس السماء - وجدوا الطريق إليه محروسا بحرس شديد، يرجمهم بالشهب، فتنقض عليهم وتقتل من توجه إليه منهم. ويعلنون أنهم لا يدرون شيئا عن الغيب المقدر للبشر:
وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا .. فهذا الغيب موكول لعلم الله لا يعلمه سواه. فأما نحن فلا نعلم ماذا قدر الله لعباده في الأرض: قدر أن ينزل بهم الشر. فهم متروكون للضلال، أم قدر لهم الرشد - وهو الهداية - وقد جعلوها مقابلة للشر. فهي الخير، وعاقبتها هي الخير.
وإذا كان المصدر الذي يزعم الكهان أنهم يستقون منه معلوماتهم عن الغيب، يقرر أنه هو لا يدري عن ذلك شيئا، فقد انقطع كل قول، وبطل كل زعم، وانتهى أمر الكهانة والعرافة. وتمحض الغيب لله، لا يجترئ أحد على القول بمعرفته، ولا على التنبؤ به. وأعلن القرآن
تحرير العقل البشري من كل وهم وكل زعم من هذا القبيل! وأعلن
رشد البشرية منذ ذلك اليوم وتحررها من الخرافات والأساطير!
أما أين يقف ذلك الحرس؟ ومن هو؟ وكيف يرجم الشياطين بالشهب؟ فهذا كله مما لم يقل لنا عنه القرآن ولا الأثر شيئا، وليس لنا مصدر سواهما نستقي منه عن هذا الغيب شيئا ولو علم الله أن في تفصيله خيرا لنا لفعل. وإذ لم يفعل فمحاولتنا نحن في هذا الاتجاه عبث لا يضيف إلى حياتنا ولا إلى معرفتنا المثمرة شيئا!
ولا مجال كذلك للاعتراض أو الجدل حول الشهب، وأنها تسير وفق نظام كوني، قبل البعثة وبعدها ووفق ناموس يحاول علماء الفلك تفسيره، بنظريات تخطئ وتصيب. وحتى على فرض صحة هذه النظريات فإن هذا لا يدخل في موضوعنا، ولا يمنع أن ترجم الشياطين بهذه الشهب عند انطلاقها. وأن تنطلق هذه الشهب رجوما وغير رجوم وفق مشيئة الله الذي يجري عليها القانون!
فأما الذين يرون في هذا كله مجرد تمثيل وتصوير لحفظ الله للذكر من الالتباس بأي باطل; وأنه لا يجوز أن يؤخذ على ظاهره.. فسبب هذا عندهم أنهم يجيئون إلى القرآن بتصورات مقررة سابقة في أذهانهم، أخذوها من مصادر أخرى غير القرآن. ثم يحاولون أن يفسروا القرآن وفق تلك التصورات السابقة المقررة في أذهانهم من قبل.. ومن ثم يرون الملائكة تمثيلا لقوة الخير والطاعة. والشياطين تمثيلا لقوة الشر والمعصية. والرجوم تمثيلا للحفظ والصيانة ... إلخ لأن في مقرراتهم السابقة - قبل أن يواجهوا القرآن - أن هذه المسميات: الملائكة والشياطين أو الجن، لا يمكن أن يكون لها وجود مجسم على هذا النحو، وأن تكون لها هذه التحركات الحسية، والتأثيرات الواقعية!!!
من أين جاءوا بهذا؟ من أين جاءوا بهذه المقررات التي يحاكمون إليها نصوص القرآن والحديث؟
إن الطريق الأمثل في فهم القرآن وتفسيره، وفي التصور الإسلامي وتكوينه.. أن ينفض الإنسان من ذهنه كل تصور سابق، وأن يواجه القرآن بغير مقررات تصورية أو عقلية أو شعورية سابقة، وأن يبني مقرراته كلها حسبما يصور القرآن والحديث حقائق هذا الوجود. ومن ثم لا يحاكم القرآن والحديث لغير القرآن. ولا ينفي شيئا يثبته القرآن ولا يؤوله! ولا يثبت شيئا ينفيه القرآن أو يبطله. وما عدا المثبت والمنفي في القرآن، فله أن يقول فيه ما يهديه إليه عقله وتجربته..
نقول هذا بطبيعة الحال للمؤمنين بالقرآن.. وهم مع ذلك يؤولون نصوصه هذه لتوائم مقررات سابقة في
[ ص: 3731 ] عقولهم، وتصورات سابقة في أذهانهم لما ينبغي أن تكون عليه حقائق الوجود..
فأما الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، ويعتسفون نفي هذه التصورات لمجرد أن العلم لم يصل إلى شيء منها، فهم مضحكون حقا! فالعلم لا يعلم أسرار الموجودات الظاهرة بين يديه، والتي يستخدمها في تجاربه. وهذا لا ينفي وجودها طبعا! فضلا على أن العلماء الحقيقيين أخذت كثرة منهم تؤمن بالمجهول على طريق المتدينين، أو على الأقل لا ينكرون ما لا يعلمون! لأنهم بالتجربة وجدوا أنفسهم - عن طريقة العلم ذاته - أمام مجاهيل فيما بين أيديهم مما كانوا يحسبون أنهم فرغوا من الإحاطة بعلمه! فتواضعوا تواضعا علميا نبيلا ليست عليه سمة الادعاء، ولا طابع التطاول على المجهول، كما يتطاول مدعو العلم ومدعو التفكير العلمي، ممن ينكرون حقائق الديانات، وحقائق المجهول!
إن الكون من حولنا حافل بالأسرار، عامر بالأرواح، حاشد بالقوى. وهذه السورة من القرآن - كغيرها - تمنحنا جوانب من الحقائق في هذا الوجود، تعين على بناء تصور حقيقي صحيح للوجود وما فيه من قوى وأرواح وحيوات تعج من حولنا، وتتفاعل مع حياتنا وذواتنا. وهذا التصور هو الذي يميز المسلم ويقف به وسطا بين الوهم والخرافة، وبين الادعاء والتطاول. ومصدره هو القرآن والسنة. وإليهما يحاكم المسلم كل تصور آخر وكل قول وكل تفسير..
وإن هنالك مجالا للعقل البشري معينا في ارتياد آفاق المجهول: والإسلام يدفعه إلى هذا دفعا.. ولكن وراء هذا المجال المعين ما لا قدرة لهذا العقل على ارتياده، لأنه لا حاجة به إلى ارتياده. وما لا حاجة له به في خلافة الأرض فلا مجال له إليه، ولا حكمة في إعانته عليه. لأنه ليس من شأنه، ولا داخلا في حدود اختصاصه.
والقدر الضروري له منه ليعلم مركزه في الكون بالقياس إلى ما حوله ومن حوله، قد تكفل الله سبحانه ببيانه له، لأنه أكبر من طاقته. وبالقدر الذي يدخل في طاقته. ومنه هذا الغيب الخاص بالملائكة والشياطين والروح والمنشأ والمصير..
فأما الذين اهتدوا بهدى الله، فقد وقفوا في هذه الأمور عند القدر الذي كشفه الله لهم في كتبه وعلى لسان رسله. وأفادوا منه الشعور بعظمة الخالق، وحكمته في الخلق، والشعور بموقف الإنسان في الأرض من هذه العوالم والأرواح. وشغلوا طاقاتهم العقلية في الكشف والعلم المهيأ للعقل في حدود هذه الأرض وما حولها من أجرام بالقدر الممكن لهم. واستغلوا ما علموه في العمل والإنتاج وعمران هذه الأرض والقيام بالخلافة فيها، على هدى من الله، متجهين إليه، مرتفعين إلى حيث يدعوهم للارتفاع.
وأما الذين لم يهتدوا بهدى الله فانقسموا فرقتين كبيرتين:
فرقة ظلت تجاهد بعقولها المحدودة لإدراك غير المحدود من ذاته تعالى، والمعرفة الحقيقية المغيبة عن غير طريق الكتب المنزلة. وكان منهم فلاسفة حأولو تفسير هذا الوجود وارتباطاته، فظلوا يتعثرون كالأطفال الذين يصعدون جبلا شاهقا لا غاية لقمته، أو يحاولون حل لغز الوجود وهم لم يتقنوا بعد أبجدية الهجاء! وكانت لهم تصورات مضحكة - وهم كبار فلاسفة - مضحكة حقا حين يقرنها الإنسان إلى التصور الواضح المستقيم الجميل الذي ينشئه القرآن. مضحكة بعثراتها. ومضحكة بمفارقاتها. ومضحكة بتخلخلها. ومضحكة بقزامتها
[ ص: 3732 ] بالقياس إلى عظمة الوجود الذي يفسرونه بها.. لا أستثني من هذا فلاسفة الإغريق الكبار، ولا فلاسفة المسلمين الذين قلدوهم في منهج التفكير. ولا فلاسفة العصر الحديث! وذلك حين يقاس تصورهم إلى التصور الإسلامي للوجود .
فهذه فرقة. فأما الفرقة الأخرى، فقد يئست من جدوى هذا الاتجاه في المعرفة. فعدلت عنه إلى حصر نفسها وجهدها في العلم التجريبي والتطبيقي. ضاربة صفحا عن المجهول. الذي ليس إليه من سبيل. وغير مهتدية فيه بهدى الله. لأنها لا تستطيع أن تدرك الله! وهذه الفرقة كانت في أوج غلوائها خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولكنها أخذت منذ مطلع هذا القرن تفيق من الغرور العلمي الجامح، على هروب المادة من بين أيديها وتحولها إلى إشعاع "مجهول الكنه" ويكاد يكون مجهول القانون!
وبقي الإسلام ثابتا على صخرة اليقين. يمنح البشر من المجهول القدر الذي لهم فيه خير. ويوفر طاقتهم العقلية للعمل في خلافة الأرض. ويهيئ لعقولهم المجال الذي تعمل فيه في أمن. ويهديهم للتي هي أقوم في المجهول وغير المجهول!
بعد ذلك أخذ الجن يصفون حالهم وموقفهم من هدى الله; بما نفهم منه أن لهم طبيعة مزدوجة كطبيعة الإنسان في الاستعداد للهدى والضلال. ويحدثنا هذا النفر عن عقيدتهم في ربهم وقد آمنوا به. وعن ظنهم بعاقبة من يهتدي ومن يضل:
وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك، كنا طرائق قددا. وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا. وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا. وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون: فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ..
وهذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين وغير صالحين، مسلمين وقاسطين، يفيد ازدواج طبيعة الجن، واستعدادهم للخير والشر كالإنسان - إلا من تمحض للشر منهم وهو إبليس وقبيله - وهو تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق. فأغلبنا حتى الدارسين الفاقهين - على اعتقاد أن الجن يمثلون الشر، وقد خلصت طبيعتهم له. وأن الإنسان وحده بين الخلائق هو ذو الطبيعة المزدوجة. وهذا ناشئ من مقررات سابقة في تصوراتنا عن حقائق هذا الوجود كما أسلفنا. وقد آن أن نراجعها على مقررات القرآن الصحيحة!
وهذا النفر من الجن يقول:
وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك .. ويصف حالهم بصفة عامة:
كنا طرائق قددا .. أي لكل منا طريقته المنفصلة المقدودة المنقطعة عن طريقة الفريق الآخر.
ثم بين النفر معتقدهم الخاص بعد إيمانهم:
وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض، ولن نعجزه هربا ..
فهم يعرفون قدرة الله عليهم في الأرض، ويعرفون عجزهم عن الهرب من سلطانه - سبحانه - والإفلات من قبضته، والفكاك من قدره. فلا هم يعجزون الله وهم في الأرض، ولا هم يعجزونه بالهرب منها. وهو ضعف العبد أمام الرب، وضعف المخلوق أمام الخالق. والشعور بسلطان الله القاهر الغالب.
[ ص: 3733 ] وهؤلاء الجن هم الذين يعوذ بهم رجال من الإنس! وهم الذين يستعين بهم الإنس في الحوائج! وهم الذين جعل المشركون بين الله - سبحانه - وبينهم نسبا! وهؤلاء هم يعترفون بعجزهم وقدرة الله. وضعفهم وقوة الله، وانكسارهم وقهر الله، فيصححون، لا لقومهم فحسب بل للمشركين كذلك، حقيقة القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومن فيه.
ثم يصفون حالهم عند ما سمعوا الهدى، وقد قرروه من قبل، ولكنهم يكررونه هنا بمناسبة الحديث عن فرقهم وطوائفهم تجاه الإيمان:
وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به ..
كما ينبغي لكل من يسمع الهدى. وهم سمعوا القرآن. ولكنهم يسمونه هدى كما هي حقيقته ونتيجته. ثم يقررون ثقتهم في ربهم، وهي ثقة المؤمن في مولاه:
فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ..
وهي ثقة المطمئن إلى عدل الله، وإلى قدرته، ثم إلى طبيعة الإيمان وحقيقته.. فالله - سبحانه - عادل. ولن يبخس المؤمن حقه، ولن يرهقه بما فوق طاقته. والله - سبحانه - قادر. فسيحمي عبده المؤمن من
البخس وهو نقص الاستحقاق إطلاقا، ومن الرهق وهو الجهد والمشقة فوق الطاقة. ومن ذا الذي يملك أن يبخس المؤمن أو يرهقه وهو في حماية الله ورعايته؟ ولقد يقع للمؤمن حرمان من بعض أعراض هذه الحياة الدنيا ولكن هذا ليس هو البخس، فالعوض عما يحرمه منها يمنع عنه البخس. وقد يصيبه الأذى من قوى الأرض لكن هذا ليس هو الرهق، لأن ربه يدركه بطاقة تحتمل الألم وتفيد منه وتكبر به! وصلته بربه تهون عليه المشقة فتمحضها لخيره في الدنيا والآخرة.
المؤمن إذن في أمان نفسي من البخس ومن الرهق:
فلا يخاف بخسا ولا رهقا .. وهذا الأمان يولد الطمأنينة والراحة طوال فترة العافية، فلا يعيش في قلق وتوجس. حتى إذا كانت الضراء لم يهلع ولم يجزع، ولم تغلق على نفسه المنافذ.. إنما يعد الضراء ابتلاء من ربه يصبر له فيؤجر. ويرجو فرج الله منها فيؤجر. وهو في الحالين لم يخف بخسا ولا رهقا. ولم يكابد بخسا ولا رهقا.
وصدق النفر المؤمن من الجن في تصوير هذه الحقيقة المنيرة.
ثم يقررون تصورهم لحقيقة الهدى والضلال، والجزاء على الهدى والضلال:
وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون. فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا. وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ..
والقاسطون: الجائرون المجانبون للعدل والصلاح. وقد جعلهم هذا النفر من الجن فريقا يقابل المسلمين. وفي هذا إيماءة لطيفة بليغة المدلول. فالمسلم عادل مصلح، يقابله القاسط: الجائر المفسد..
فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا .. والتعبير بلفظ "تحروا" يوحي بأن الاهتداء إلى الإسلام معناه الدقة في
طلب الرشد والاهتداء - ضد الغي والضلال - ومعناه تحري الصواب واختياره عن معرفة وقصد بعد تبين ووضوح. وليس هو خبط عشواء ولا انسياقا بغير إدراك. ومعناه أنهم وصلوا فعلا إلى الصواب حين اختاروا الإسلام.. وهو معنى دقيق وجميل..
وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا
أي تقرر أمرهم وانتهى إلى أن يكونوا حطبا لجهنم، تتلظى بهم وتزداد اشتعالا، كما تتلظى النار بالحطب..
[ ص: 3734 ] ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار. ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة.. هكذا يوحي النص القرآني. وهو الذي نستمد منه تصورنا. فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئا يستند فيه إلى تصور غير قرآني، عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو طبيعة الجنة.. فسيكون ما قاله الله حقا بلا جدال!
وما ينطبق على الجن مما بينوه لقومهم، ينطبق على الإنس وقد قاله لهم الوحي بلسان نبيهم..
وإلى هنا كان الوحي يحكي قول الجن بألفاظهم المباشرة عن أنفسهم; ثم عدل عن هذا النسق إلى تلخيص مقالة لهم عن فعل الله مع الذين يستقيمون على الطريقة إليه، وذكرها بفحواها لا بألفاظها:
وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا ..
يقول الله - سبحانه - إنه كان من مقالة الجن عنا: ما فحواه أن الناس لو استقاموا على الطريقة، أو أن القاسطين لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم نحن ماء موفورا نغدقه عليهم، فيفيض عليهم بالرزق والرخاء..
لنفتنهم فيه .. ونبتليهم أيشكرون أم يكفرون.
وهذا العدول عن حكاية قول الجن إلى ذكر فحوى قولهم في هذه النقطة، يزيد مدلولها توكيدا بنسبة الإخبار فيها والوعد إلى الله سبحانه. ومثل هذه اللفتات كثير في الأسلوب القرآني، لإحياء المعاني وتقويتها وزيادة الانتباه إليها.
وهذه اللفتة تحتوي جملة حقائق، تدخل في تكوين عقيدة المؤمن، وتصوره عن مجريات الأمور وارتباطاتها.
والحقيقة الأولى: هي الارتباط بين استقامة الأمم والجماعات على الطريقة الواحدة الواصلة إلى الله، وبين إغداق الرخاء وأسبابه; وأول أسبابه توافر الماء واغدوداقه. وما تزال الحياة تجري على خطوات الماء في كل بقعة. وما يزال الرخاء يتبع هذه الخطوات المباركة حتى هذا العصر الذي انتشرت فيه الصناعة، ولم تعد الزراعة هي المصدر الوحيد للرزق والرخاء. ولكن الماء هو الماء في أهميته العمرانية..
وهذا الارتباط بين الاستقامة على الطريقة وبين الرخاء والتمكين في الأرض حقيقة قائمة. وقد كان العرب في جوف الصحراء يعيشون في شظف، حتى استقاموا على الطريقة، ففتحت لهم الأرض التي يغدودق فيها الماء، وتتدفق فيها الأرزاق. ثم حادوا عن الطريقة فاستلبت منهم خيراتهم استلابا. وما يزالون في نكد وشظف، حتى يفيئوا إلى الطريقة، فيتحقق فيهم وعد الله.
وإذا كانت هناك أمم لا تستقيم على طريقة الله، ثم تنال الوفر والغنى، فإنها تعذب بآفات أخرى في إنسانيتها أو أمنها أو قيمة الإنسان وكرامته فيها، تسلب عن ذلك الغنى والوفر معنى الرخاء. وتحيل الحياة فيها لعنة مشؤومة على إنسانية الإنسان وخلقه وكرامته وأمنه وطمأنينته (كما سبق بيانه في سورة نوح) ..
والحقيقة الثانية التي تنبثق من نص هذه الآية: هي أن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة.
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة). والصبر على الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق وأندر من الصبر على الشدة! على عكس ما يلوح للنظرة العجلى.. فكثيرون هم الذين يصبرون على الشدة ويتماسكون لها بحكم ما تثيره في النفس من تجمع ويقظة ومقاومة; ومن ذكر لله والتجاء إليه واستعانة به، حين تسقط الأسناد في الشدة فلا يبقى إلا ستره. فأما الرخاء فينسي ويلهي، ويرخي الأعضاء وينيم عناصر المقاومة في النفس، ويهيئ الفرصة
[ ص: 3735 ] للغرور بالنعمة والاستنامة للشيطان!
إن الابتلاء بالنعمة في حاجة ملحة إلى يقظة دائمة تعصم من الفتنة.. نعمة المال والرزق كثيرا ما تقود إلى فتنة البطر وقلة الشكر، مع السرف أو مع البخل، وكلاهما آفة للنفس والحياة ... ونعمة القوة كثيرا ما تقود إلى
فتنة البطر وقلة الشكر مع
الطغيان والجور، والتطاول بالقوة على الحق وعلى الناس، والتهجم على حرمات الله.. ونعمة الجمال كثيرا ما تقود إلى فتنة الخيلاء والتيه وتتردى في مدارك الإثم والغواية.. ونعمة الذكاء كثيرا ما تقود إلى فتنة الغرور والاستخفاف بالآخرين وبالقيم والموازين.. وما تكاد تخلو نعمة من الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله..
والحقيقة الثالثة أن الإعراض عن ذكر الله، الذي قد تنتهي إليه
فتنة الابتلاء بالرخاء، مؤد إلى عذاب الله. والنص يذكر صفة للعذاب
يسلكه عذابا صعدا .. توحي بالمشقة مذ كان الذي يصعد في المرتفع يجد مشقة في التصعيد كلما تصعد. وقد درج القرآن على الرمز للمشقة بالتصعيد. فجاء في موضع:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء . وجاء في موضع:
سأرهقه صعودا . وهي حقيقة مادية معروفة. والتقابل واضح بين الفتنة بالرخاء وبين العذاب الشاق عند الجزاء!