كلا! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون. ثم إنهم لصالو الجحيم. ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون ..
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام، حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا. وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة.. فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم، وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى، التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها. ممن قال فيهم في سورة القيامة:
وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة ..
وهذا الحجاب عن ربهم، عذاب فوق كل عذاب، وحرمان فوق كل حرمان. ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم. فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم:
ثم إنهم لصالو الجحيم .. ومع الجحيم التأنيب وهو أمر من الجحيم:
ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون !!
ثم يعرض الصفحة الأخرى. صفحة الأبرار. على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب، لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين نهايتين:
كلا! إن كتاب الأبرار لفي عليين. وما أدراك ما عليون؟ كتاب مرقوم، يشهده المقربون. إن الأبرار لفي نعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم، يسقون من رحيق مختوم، ختامه مسك. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ومزاجه من تسنيم. عينا يشرب بها المقربون ..
وكلمة " "كلا"" تجيء في صدر هذا المقطع زجرا عما ذكر قبله من التكذيب في قوله:
ثم يقال: هذا الذي كنتم به تكذبون .. ويعقب عليه بقوله:
كلا ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد.
فإذا كان كتاب الفجار في" سجين" فإن كتاب الأبرار في
عليين ... والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير. وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد..
ولفظ
عليين يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن" سجين" يفيد الانحطاط والسفول. ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود:
وما أدراك ما عليون؟ .. فهو أمر فوق العلم والإدراك!
ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار.. فهو
كتاب مرقوم يشهده المقربون وقد
[ ص: 3859 ] سبق ذكر معنى مرقوم. ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه. وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلا كريما طاهرا رفيعا على كتاب الأبرار. فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات. وهذا ظل كريم شفيف، يذكر بقصد التكريم.
ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم، أصحاب هذا الكتاب الكريم. ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم:
إن الأبرار لفي نعيم .. يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار..
على الأرائك ينظرون أي إنهم في موضع التكريم، ينظرون حيث يشاءون، لا يغضون من مهانة، ولا يشغلون عن النظر من مشقة.. وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال. وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسميه "الناموسية" أو الكلة! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة! أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله. وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته!
وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام، تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء:
تعرف في وجوههم نضرة النعيم ..
يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك ..
والرحيق الشراب الخالص المصفى، الذي لا غش فيه ولا كدرة. ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك، قد يفيد أنه معد في أوانيه، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة، تفض عند الشراب، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية. كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض. فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود!
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين:
ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون .. أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة:
تسنيم التي
يشرب بها المقربون .. قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع، وبهذا التوجيه:
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .. وهو إيقاع عميق يدل على كثير ...
إن أولئك المطففين، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية.. إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد. يريد كل منهم أن يسبق إليه، وأن يحصل على أكبر نصيب منه. ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل..
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس. إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم:
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .. فهو مطلب يستحق المنافسة، وهو أفق يستحق السباق، وهو غاية تستحق الغلاب.
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب. والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة. ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه. فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة..
[ ص: 3860 ] ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا. بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا. والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع. والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض. أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين!
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين. إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق. على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وإن قولة
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ... لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها. ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه!
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله. وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود. ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر. وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود! فأين مجال من مجال؟ وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟!
ألا إن السباق إلى هناك..
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ..
وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار، تمهيدا للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار. من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء.. وقد أطال في عرضه كذلك. ليختمه بالسخرية من الكفار، وهم يشهدون نعيم الأبرار:
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون. وإذا مروا بهم يتغامزون. وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين. وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون.. وما أرسلوا عليهم حافظين فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، على الأرائك ينظرون ...
هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون؟ ..
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا، وسوء أدبهم معهم، وتطاولهم عليهم، ووصفهم بأنهم ضالون.. مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة. ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى. وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها. مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور!!
إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون .. كانوا.. فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة. فإذا المخاطبون به في الآخرة. يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا. وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا!
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم، وسخرية منهم. إما لفقرهم ورثاثة حالهم. وإما لضعفهم
[ ص: 3861 ] عن رد الأذى. وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء.. فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا. وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة. وهم يسلطون عليهم الأذى، ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع، مما يصيب الذين آمنوا، وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين!
وإذا مروا بهم يتغامزون .. يغمز بعضهم لبعض بعينه، أو يشير بيده، أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين. وهي حركة وضيعة واطية تكشف عن سوء الأدب، والتجرد من التهذيب. بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين، وإصابتهم بالخجل والربكة، وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين!
وإذا انقلبوا إلى أهلهم بعد ما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم..
انقلبوا فكهين .. راضين عن أنفسهم، مبتهجين بما فعلوا، مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير. فلم يتلوموا ولم يندموا، ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا. وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير!
وإذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون !
وهذه أعجب.. فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال. وأن يزعموا حين يرون المؤمنين، أن المؤمنين ضالون. ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير:
إن هؤلاء لضالون! ..
والفجور لا يقف عند حد، ولا يستحيي من قول، ولا يتلوم من فعل. واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون، إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود!
والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا، ولا ليناقش طبيعة الفرية. فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة. ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم، ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر:
وما أرسلوا عليهم حافظين .. وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين، وما أقيموا عليهم رقباء، ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم! فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير!
وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا.. ما كان.. ويطوي هذا المشهد الذي انتهى. ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذاك النعيم: