[ ص: 339 ] آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ( 285 )
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ( 286 )
هذا ختام السورة الكبيرة .. الكبيرة بحجمها التعبيري إذ هي أطول سور القرآن، والكبيرة بموضوعاتها التي تمثل قطاعا ضخما رحيبا من قواعد التصور الإيماني، وصفة الجماعة المسلمة، ومنهجها، وتكاليفها، وموقفها في الأرض، ودورها في الوجود; وموقف أعدائها المناهضين لها، وطبيعتهم، وطبيعة وسائلهم في حربها; ووسيلتها هي في دفع غائلتهم عنها من جهة، وتوقي مصيرهم المنكود من جهة أخرى.. كما شرحت السورة طبيعة دور الإنسان في الأرض، وفطرته، ومزالق خطاه، ممثلة في تاريخ البشرية وقصصها الواقعي..
إلى آخر ما سبق تفصيله في أثناء استعراض نصوصها الطويلة.
هذا ختام السورة الكبيرة.. في آيتين اثنتين.. ولكنهما تمثلان بذاتهما تلخيصا وافيا لأعظم قطاعات السورة.
يصلح ختاما لها. ختاما متناسقا مع موضوعاتها وجوها وأهدافها.
لقد بدأت السورة بقوله تعالى:
الم ذلك الكتاب لا ريب فيه، هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون ..
وورد في ثناياها إشارات إلى هذه الحقيقة، وبخاصة حقيقة الإيمان بالرسل جميعا.. وها هي ذي تختم بقوله تعالى:
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون. كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله ... وهو ختام يتناسق مع البدء كأنهما دفتا كتاب!.
وقد حوت السورة الكثير من تكاليف الأمة المسلمة، وتشريعاتها في شتى شؤون الحياة.. كما ورد فيها الكثير عن نكول بني إسرائيل عن تكاليفهم وتشريعاتهم.. وفي ختامها يجيء هذا النص المفصح عن الحد الفاصل بين النهوض بالتكاليف والنكول عنها، المبين أن الله - سبحانه - لا يريد إعنات هذه الأمة ولا إثقالها، وأنه كذلك لا يحابيها - كما زعمت يهود عن ربها - ولا يتركها سدى:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ..
وقد تضمنت السورة بعض قصص بني إسرائيل ; وما أنعم الله عليهم به من فضل وما قابلوا به هذا الفضل من جحود; وما كلفهم من كفارات بلغ بعضها حد القتل:
فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم .. وفي ختامها يرد ذلك الدعاء الخاشع من المؤمنين:
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. ربنا ولا تحمل علينا [ ص: 340 ] إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به. واعف عنا واغفر لنا وارحمنا ... .
وقد فرض في السورة على المؤمنين القتال; وأمروا بالجهاد والإنفاق في سبيل الله لدفع الكفر والكافرين..
وهي تختم بالتجاء المؤمنين إلى ربهم يستمدون منه العون على ما كلفهم، والنصر على عدوهم:
أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .
إنه الختام الذي يلخص ويشير ويتناسق مع خط السورة الأصيل..
وفي هاتين الآيتين كل كلمة لها موضعها، ولها دورها، ولها دلالتها الضخمة. وهي قائمة في العبارة لتمثيل ما وراءها - وهو كبير - من حقائق العقيدة.. من طبيعة الإيمان في هذا الدين وخصائصه وجوانبه. ومن حال المؤمنين به مع ربهم، وتصورهم لما يريده - سبحانه - بهم، وبالتكاليف التي يفرضها عليهم. ومن التجائهم إلى كنفه واستسلامهم لمشيئته وارتكانهم إلى عونه.. نعم.. كل كلمة لها دورها الضخم. بصورة عجيبة. عجيبة حتى في نفس من عاش في ظلال القرآن، وعرف شيئا من أسرار التعبير فيه; وطالع هذه الأسرار في كل آية من آياته!.