[ ص: 4006 ] (113)
سورة الفلق مكية
وآياتها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
قل أعوذ برب الفلق (1)
من شر ما خلق (2)
ومن شر غاسق إذا وقب (3)
ومن شر النفاثات في العقد (4)
ومن شر حاسد إذا حسد (5)
هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام..
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه.
قل: أعوذ برب الفلق ..
قل: أعوذ برب الناس ..
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار، تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه، والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استروحه في عمق وفرح وانطلاق:
عن
عقبة - ابن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=658356ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط؟ قل: أعوذ برب الفلق وقل: أعوذ برب الناس ..
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر - رضي الله عنه - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=671607قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ يا nindex.php?page=showalam&ids=36جابر". قلت: ماذا بأبي أنت وأمي؟ قال: "اقرأ. قل أعوذ برب الفلق. وقل أعوذ برب الناس" فقرأتهما. فقال: "اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما"..
وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15916زر بن حبيش قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=654595سألت nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن المعوذتين. قلت: يا أبا المنذر إن أخاك [ ص: 4007 ] nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود يقول كذا وكذا (وكان nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف) فقال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "قيل لي: قل. فقلت". فنحن نقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة..
وهنا في هذه السورة يذكر الله - سبحانه - نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة.
قل أعوذ برب الفلق .. والفلق من معانيه الصبح، ومن معانيه الخلق كله. بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة، كما قال في الأنعام:
إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي .. وكما قال:
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ..
وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمن بالنور من شر كل غامض مستور، أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمن من شر خلقه، فالمعنى يتناسق مع ما بعده..
من شر ما خلق .. أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها!
ومن شر غاسق إذا وقب .. والغاسق في اللغة الدافق، والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء. والمقصود هنا - غالبا - هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب!
ومن شر النفاثات في العقد .. والنفاثات في العقد: السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء!
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء; ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة
موسى عليه السلام: سورة طه
قالوا: يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى. قال: بل ألقوا. فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى. فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا: لا تخف إنك أنت الأعلى. وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ... .
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا، ولكن خيل إلى الناس -
وموسى معهم - أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة، حتى جاءه التثبيت. ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا
موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة.
[ ص: 4008 ] وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها. وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه.. مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد.. وهي شر يستعاذ منه بالله، ويلجأ منه إلى حماه.
وقد وردت روايات - بعضها صحيح ولكنه غير متواتر -
nindex.php?page=hadith&LINKID=655321أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم - في المدينة. . قيل أياما، وقيل أشهرا.. حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استحضر السحر المقصود - كما أخبر في رؤياه - وقرأ السورتين انحلت العقد، وذهب عنه السوء.
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول من أقواله سنة وشريعة، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مسحور، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك. ومن ثم تستبعد هذه الروايات.. وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد. وهذه الروايات ليست من المتواتر. فضلا على أن نزول هاتين السورتين في
مكة هو الراجح. مما يوهن أساس الروايات الأخرى.
ومن شر حاسد إذا حسد ..
والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها. وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال.
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود، وأسرار النفس البشرية، وأسرار هذا الجهاز الإنساني. فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار، ولا نملك لها حتى اليوم تعليلا.. هنالك مثلا ذلك التخاطر على البعد. وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين. اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام التجارب الكثيرة المثبتة لها. ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات. وكذلك التنويم المغناطيسي. وقد أصبح الآن موضعا للتجربة المتكررة المثبتة. وهو مجهول السر والكيفية.. وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني ...
فإذا حسد الحاسد، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته. فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان. وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في الغالب، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك!
فهنا شر يستعاذ منه بالله، ويستجار منه بحماه ..
والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور. ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به - وفق توجيهه - أعاذهم. وحماهم من هذه الشرور إجمالا وتفصيلا.
[ ص: 4009 ] وقد روى
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري - بإسناده - عن
nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة - رضي الله عنها -
nindex.php?page=hadith&LINKID=654630أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، وقرأ فيهما، قل هو الله أحد .. و قل: أعوذ برب الفلق . و قل: أعوذ برب الناس . ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات".. وهكذا رواه أصحاب السنن...