صفحة جزء
وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من قصة عيسى التي تدور حولها المناظرة ويدور حولها الجدل، يبدأ التعقيب الذي يقرر الحقائق الأساسية المستفادة من هذا القصص، وينتهي إلى تلقين الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يواجه به أهل الكتاب مواجهة فاصلة تنهي الحوار والجدل; وتستقر على حقيقة ما جاء به، وما يدعو إليه، في وضوح كامل وفي يقين:

ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب. ثم قال له: كن. فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل: تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق، وما من إله إلا الله. وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون ..

وهكذا نجد هذا التعقيب يتضمن ابتداء صدق الوحي الذي يوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - :

ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ..

ذلك القصص. وذلك التوجيه القرآني كله. فهو وحي من الله . يتلوه الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - وفي التعبير معنى التكريم والقرب والود.. فماذا بعد أن يتولى الله تعالى التلاوة على محمد نبيه؟ تلاوة الآيات والذكر الحكيم.. وإنه لحكيم يتولى تقرير الحقائق الكبرى في النفس والحياة بمنهج وأسلوب وطريقة تخاطب الفطرة وتتلطف في الدخول عليها واللصوق بها بشكل غير معهود فيما يصدر عن غير هذا المصدر الفريد.

ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشئ كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام:

إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب. ثم قال له: كن فيكون ..

إن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر . ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي [ ص: 405 ] البشر؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى - بسبب مولده - ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب.. أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب. وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني.. دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى . ودون أن يقولوا عن آدم : إن له طبيعة لاهوتية. على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب: عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك! وإن هي إلا الكلمة:

"كن" تنشئ ما تراد له النشأة "فيكون"!.

وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة.. حقيقة عيسى ، وحقيقة آدم ، وحقيقة الخلق كله. وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح، حتى ليعجب الإنسان: كيف ثار الجدل حول هذا الحادث، وهو جار وفق السنة الكبرى. سنة الخلق والنشأة جميعا!.

وهذه هي طريقة "الذكر الحكيم" في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط، في أعقد القضايا، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور!.

وعندما يصل السياق بالقضية إلى هذا التقرير الواضح يتجه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يثبته على الحق الذي معه، والذي يتلى عليه، ويؤكده في حسه; كما يؤكده في حس من حوله من المسلمين، الذين ربما تؤثر في بعضهم شبهات أهل الكتاب ، وتلبيسهم وتضليلهم الخبيث:

الحق من ربك فلا تكن من الممترين ..

وما كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممتريا ولا شاكا فيما يتلوه عليه ربه، في لحظة من لحظات حياته..

وإنما هو التثبيت على الحق، ندرك منه مدى ما كان يبلغه كيد أعداء الجماعة المسلمة من بعض أفرادها في ذلك الحين. كما ندرك منه مدى ما تتعرض له الأمة المسلمة في كل جيل من هذا الكيد; وضرورة تثبيتها على الحق الذي معها في وجه الكائدين والخادعين; ولهم في كل جيل أسلوب من أساليب الكيد جديد.

وهنا - وقد وضحت القضية وظهر الحق جليا - يوجه الله تعالى رسوله الكريم إلى أن ينهي الجدل والمناظرة حول هذه القضية الواضحة وحول هذا الحق البين وأن يدعوهم إلى المباهلة كما هي مبينة في الآية التالية:

فمن حاجك فيه - من بعد ما جاءك من العلم - فقل: تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم. ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين ..

وقد دعا الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كانوا يناظرونه في هذه القضية إلى هذا الاجتماع الحاشد، ليبتهل الجميع إلى الله أن ينزل لعنته على الكاذب من الفريقين. فخافوا العاقبة وأبوا المباهلة. وتبين الحق واضحا.

ولكنهم فيما ورد من الروايات لم يسلموا احتفاظا بمكانتهم من قومهم، وبما كان يتمتع به رجال الكنيسة من سلطان وجاه ومصالح ونعيم!!! وما كانت البينة هي التي يحتاج إليها من يصدون عن هذا الدين; إنما هي المصالح والمطامع والهوى يصد الناس عن الحق الواضح الذي لا خفاء فيه.

ثم يمضي التعقيب بعد الدعوة إلى المباهلة - وربما كانت الآيات التالية قد نزلت بعد الامتناع عنها - يقرر حقيقة الوحي، وحقيقة القصص، وحقيقة الوحدانية التي يدور حولها الحديث; ويهدد من يتولى عن الحق ويفسد في الأرض بهذا التولي:

إن هذا لهو القصص الحق. وما من إله إلا الله. وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .

والحقائق التي تقررها هذه النصوص سبق تقريرها. وهي تذكر هنا للتوكيد بعد الدعوة إلى المباهلة وإبائها.. [ ص: 406 ] إنما الجديد هو وصف الذين يتولون عن الحق بأنهم مفسدون، وتهديدهم بأن الله عليم بالمفسدين..

والفساد الذي يتولاه المعرضون عن حقيقة التوحيد فساد عظيم. وما ينشأ في الأرض الفساد - في الواقع - إلا من الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة. لا اعتراف اللسان. فاعتراف اللسان لا قيمة له. ولا اعتراف القلب السلبي. فهذا الاعتراف لا ينشئ آثاره الواقعية في حياة الناس.. إنما هي الحيدة عن الاعتراف بهذه الحقيقة بكل آثارها التي تلازمها في واقع الحياة البشرية.. وأول ما يلازم حقيقة التوحيد أن تتوحد الربوبية، فتتوحد العبودية .. لا عبودية إلا لله. ولا طاعة إلا لله. ولا تلقي إلا عن الله. فليس إلا لله تكون العبودية.

وليس إلا لله تكون الطاعة. وليس إلا عن الله يكون التلقي.. التلقي في التشريع، والتلقي في القيم والموازين، والتلقي في الآداب والأخلاق. والتلقي في كل ما يتعلق بنظام الحياة البشرية.. وإلا فهو الشرك أو الكفر.

مهما اعترفت الألسنة، ومهما اعترفت القلوب الاعتراف السلبي الذي لا ينشئ آثاره في حياة الناس العامة في استسلام وطاعة واستجابة وقبول.

إن هذا الكون بجملته لا يستقيم أمره ولا يصلح حاله، إلا أن يكون هناك إله واحد، يدبر أمره: و لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .. وأظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية: تعبد العبيد; والتشريع لهم في حياتهم، وإقامة الموازين لهم. فمن ادعى لنفسه شيئا من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية; وأقام نفسه للناس إلها من دون الله.

وما يقع الفساد في الأرض كما يقع عندما تتعدد الآلهة في الأرض على هذا النحو. عندما يتعبد الناس الناس. عندما يدعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته; وأن له فيهم حق التشريع لذاته; وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته. فهذا هو ادعاء الألوهية ولو لم يقل كما قال فرعون : أنا ربكم الأعلى ..

والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر به.. وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.

ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء: إلى عبادة الله وحده، وعدم الإشراك به، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله.. وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة:

قل: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم: ألا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله. فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون ..

وإنها لدعوة منصفة من غير شك. دعوة لا يريد بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين.. كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد. لا يعلو بعضهم على بعض، ولا يتعبد بعضهم بعضا. دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم.

إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئا . لا بشرا ولا حجرا. ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضا من دون الله أربابا. لا نبيا ولا رسولا. فكلهم لله عبيد. إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية.

فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنا مسلمون .

فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك. والعبودية لله وحده دون شريك. وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية .. إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون..

وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون. [ ص: 407 ] المسلمون هم الذين يعبدون الله وحده; ويتعبدون لله وحده; ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله..

هذه هي خصيصتهم التي تميزهم من سائر الملل والنحل; وتميز منهج حياتهم من مناهج حياة البشر جميعا.

وإما أن تتحقق هذه الخصيصة فهم مسلمون، وإما ألا تتحقق فما هم بمسلمين مهما ادعوا أنهم مسلمون!.

إن الإسلام هو التحرر المطلق من العبودية للعبيد. والنظام الإسلامي هو وحده من بين سائر النظم الذي يحقق هذا التحرر..

إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله .. يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء.. إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس. حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين.. وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس - في صورة من الصور - ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس - على أي وضع من الأوضاع - وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله; ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية، وهم بذلك يعبدونها من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا. فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله .

وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة.. ويصبح حرا. حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله. فهو وكل إنسان آخر على سواء. كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله.

والإسلام - بهذا المعنى - هو الدين عند الله. وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله.. لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله. ومن جور العباد إلى عدل الله.. فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله. مهما أول المؤولون، وضلل المضللون.. إن الدين عند الله الإسلام ..

التالي السابق


الخدمات العلمية