ثم يقرر أن
الله فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ما تيسر لهم ذلك. وإلا فهو الكفر الذي لا يضر الله شيئا:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا. ومن كفر فإن الله غني عن العالمين .
ويلفت النظر - في التعبير - هذا التعميم الشامل في فرضية الحج :
على الناس .. ففيه أولا إيحاء بأن هذا الحج مكتوب على هؤلاء اليهود الذين يجادلون في توجه المسلمين إليه في الصلاة. على حين أنهم هم أنفسهم مطالبون من الله بالحج إلى هذا البيت والتوجه إليه، بوصفه بيت أبيهم
إبراهيم ، وبوصفه أول بيت وضع للناس للعبادة. فهم - اليهود - المنحرفون المقصرون العاصون! وفيه ثانيا إيحاء بأن الناس جميعا مطالبون بالإقرار بهذا الدين، وتأدية فرائضه وشعائره، والاتجاه والحج إلى بيت الله الذي يتوجه إليه المؤمنون به..
هذا وإلا فهو الكفر. مهما ادعى المدعون أنهم على دين! والله غني عن العالمين. فما به من حاجة - سبحانه - إلى إيمانهم وحجهم. إنما هي مصلحتهم وفلاحهم بالإيمان والعبادة..
والحج فريضة في العمر مرة، عند أول ما تتوافر الاستطاعة. من الصحة وإمكان السفر وأمن الطريق..
ووقت فرضها مختلف فيه. فالذين يعتمدون رواية أن هذه الآيات نزلت في عام الوفود - في السنة التاسعة - يرون أن الحج فرض في هذه السنة. ويستدلون على هذا بأن حجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت
[ ص: 436 ] فقط بعد هذا التاريخ.. وقد قلنا عند الكلام على مسألة تحويل القبلة في الجزء الثاني من الظلال: إن حجة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا دليل فيها على تأخر فرضية الحج. فقد تكون لملابسات معينة. منها أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عرايا، ما يزالون يفعلون هذا بعد فتح
مكة . فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يخالطهم، حتى نزلت سورة براءة في العام التاسع، وحرم على المشركين الطواف بالبيت.. ثم حج - صلى الله عليه وسلم - حجته في العام الذي يليه.. ومن ثم فقد تكون فرضية الحج سابقة على ذلك التاريخ، ويكون نزول هذه الآية في الفترة الأولى من الهجرة بعد غزوة
أحد أو حواليها.
وقد تقررت هذه الفريضة على كل حال بهذا النص القاطع، الذي يجعل لله - سبحانه - حق حج البيت على "الناس" من استطاع إليه سبيلا.
والحج مؤتمر المسلمين السنوي العام . يتلاقون فيه عند
البيت الذي صدرت لهم الدعوة منه. والذي بدأت منه الملة الحنيفية على يد أبيهم
إبراهيم . والذي جعله الله أول بيت في الأرض لعبادته خالصا. فهو تجمع له مغزاه، وله ذكرياته هذه، التي تطوف كلها حول المعنى الكريم، الذي يصل الناس بخالقهم العظيم.. معنى العقيدة.
استجابة الروح لله الذي من نفخة روحه صار الإنسان إنسانا. وهو المعنى الذي يليق بالأناسي أن يتجمعوا عليه، وأن يتوافدوا كل عام إلى المكان المقدس الذي انبعث منه النداء للتجمع على هذا المعنى الكريم..