صفحة جزء
ومن ثم يعود السياق فيحذر الجماعة المسلمة من التفرق والاختلاف; وينذرها عاقبة الذين حملوا أمانة منهج الله قبلها - من أهل الكتاب - ثم تفرقوا واختلفوا، فنزع الله الراية منهم، وسلمها للجماعة المسلمة المتآخية.. فوق ما ينتظرهم من العذاب، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه:

ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. فأما الذين اسودت وجوههم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ..

وهنا يرسم السياق مشهدا من المشاهد القرآنية الفائضة بالحركة والحيوية.. فنحن في مشهد هول. هول لا يتمثل في ألفاظ ولا في أوصاف. ولكن يتمثل في آدميين أحياء. في وجوه وسمات.. هذه وجوه قد أشرقت بالنور، وفاضت بالبشر، فابيضت من البشر والبشاشة، وهذه وجوه كمدت من الحزن، واغبرت من الغم، واسودت من الكآبة.. وليست مع هذا متروكة إلى ما هي فيه. ولكنه اللذع بالتبكيت والتأنيب:

أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون! .. [ ص: 446 ] وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون .

وهكذا ينبض المشهد بالحياة والحركة والحوار.. على طريقة القرآن.

وهكذا يستقر في ضمير الجماعة المسلمة معنى التحذير من الفرقة والاختلاف . ومعنى النعمة الإلهية الكريمة..

بالإيمان والائتلاف.

وهكذا ترى الجماعة المسلمة مصير هؤلاء القوم من أهل الكتاب ، الذين تحذر أن تطيعهم. كي لا تشاركهم هذا المصير الأليم في العذاب العظيم. يوم تبيض وجوه، وتسود وجوه..

ويعقب على هذا البيان لمصائر الفريقين تعقيبا قرآنيا يتمشى مع خطوط السورة العريضة، يتضمن إثبات صدق الوحي والرسالة. وجدية الجزاء والحساب يوم القيامة. والعدل المطلق في حكم الله في الدنيا والآخرة.

وملكية الله المفردة لما في السماوات وما في الأرض. ورجعة الأمر إليه في كل حال:

تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وما الله يريد ظلما للعالمين. ولله ما في السماوات وما في الأرض. وإلى الله ترجع الأمور ..

تلك الصور. تلك الحقائق. تلك المصائر.. تلك آيات الله وبيناته لعباده: نتلوها عليك بالحق. فهي حق فيما تقرره من مبادئ وقيم; وهي حق فيما تعرضه من مصائر وجزاءات. وهي تتنزل بالحق ممن يملك تنزيلها; وممن له الحق في تقرير القيم، وتقرير المصائر، وتوقيع الجزاءات. وما يريد بها الله أن يوقع بالعباد ظلما . فهو الحكم العدل. وهو المالك لأمر السماوات والأرض. ولكل ما في السماوات وما في الأرض. وإليه مصير الأمور. إنما يريد الله بترتيب الجزاء على العمل أن يحق الحق، وأن يجري العدل، وأن تمضي الأمور بالجد اللائق بجلال الله.. لا كما يدعي أهل الكتاب أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودات!.

التالي السابق


الخدمات العلمية