وإنصافا للقلة الخيرة من أهل الكتاب ، يعود السياق عليهم بالاستثناء، فيقرر أن أهل الكتاب ليسوا كلهم سواء. فهناك المؤمنون . يصور حالهم مع ربهم، فإذا هي حال المؤمنين الصادقين. ويقرر جزاءهم عنده فإذا هو جزاء الصالحين.
ليسوا سواء. من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات. وأولئك من الصالحين. وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، والله عليم بالمتقين ..
وهي صورة وضيئة للمؤمنين من أهل الكتاب . فقد آمنوا إيمانا صادقا عميقا، وكاملا شاملا، وانضموا للصف المسلم، وقاموا على حراسة هذا الدين.. آمنوا بالله واليوم الآخر.. وقد نهضوا بتكاليف الإيمان، وحققوا سمة الأمة المسلمة التي انضموا إليها - خير أمة أخرجت للناس - فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر..
وقد رغبت نفوسهم في الخير جملة، فجعلوه الهدف الذي يسابقون فيه، فسارعوا في الخيرات، ومن ثم هذه الشهادة العلوية لهم أنهم من الصالحين. وهذا الوعد الصادق لهم أنهم لن يبخسوا حقا، ولن يكفروا أجرا.
مع الإشارة إلى أن الله - سبحانه - علم أنهم من المتقين..
وهي صورة ترفع أمام الراغبين في هذه الشهادة، وفي هذا الوعد، ليحققها في ذات نفسه كل من يشتاق إلى نورها الوضيء في أفقها المنير.
هذا في جانب.. وفي الجانب الآخر، الكافرون. الكافرون الذين لن تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ولن تنفعهم نفقة ينفقونها في الدنيا، ولن ينالهم شيء منها في الآخرة لأنها لم تتصل بخط الخير الثابت المستقيم. الخير المنبثق من الإيمان بالله، على تصور واضح، وهدف ثابت، وطريق موصول. وإلا فالخير نزوة عارضة لا ثبات لها، وجنوح يصرفه الهوى، ولا يرجع إلى أصل واضح مدرك مفهوم، ولا إلى منهج كامل شامل مستقيم..
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا. وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. [ ص: 451 ] مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر، أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته. وما ظلمهم الله، ولكن أنفسهم يظلمون
..
وهكذا ترتسم هذه الحقيقة في مشهد ينبض بالحركة ويفيض بالحياة على طريقة التعبير القرآني الجميل..
إن أموالهم وأولادهم ليست بمانعتهم من الله، ولا تصلح فدية لهم من العذاب، ولا تنجيهم من النار..
وهم أصحاب النار وكل ما ينفقونه من أموالهم فهو ذاهب هالك، حتى ولو أنفقوه فيما يظنونه خيرا.فلا خير إلا أن يكون موصولا بالإيمان، ونابعا من الإيمان. ولكن القرآن لا يعبر هكذا كما نعبر. إنما يرسم مشهدا حيا نابضا بالحياة ...
إننا ننظر فإذا نحن أمام حقل قد تهيأ للإخصاب. فهو حرث. ثم إذا العاصفة تهب. إنها عاصفة باردة ثلجية محرقة! تحرق هذا الحرث بما فيها من صر. واللفظة ذاتها كأنها مقذوف يلقى بعنف، فيصور معناه بجرسه النفاذ. وإذا الحرث كله مدمر خراب!.
إنها لحظة يتم فيها كل شيء. يتم فيها الدمار والهلاك. وإذا الحرث كله يباب! ذلك مثل ما ينفق الذين كفروا في هذه الدنيا - ولو كان ينفق فيما ظاهره الخير والبر - ومثل ما بأيديهم من نعم الأولاد والأموال.. كلها إلى هلاك وفناء.. دون ما متاع حقيقي ودون ما جزاء..
وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون .
فهم الذين تنكبوا المنهج الذي يجمع مفردات الخير والبر، فيجعلها خطا مستقيما ثابتا وأصلا. له هدف مرسوم، وله دافع مفهوم، وله طريق معلوم.. فلا يترك للنزوة العارضة، والرغبة الغامضة، والفلتة التي لا ترجع إلى منهج ثابت مستقيم..
هم الذين اختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة الحبل الممدود. فإذا ذهب عملهم كله هباء - حتى ما ينفقونه فيما ظاهره الخير - وإذا أصاب حرثهم كله الدمار، فلم يغن عنهم مال ولا ولد.. فما في هذا ظلم من الله - تعالى - لهم. إنما هو ظلمهم لأنفسهم، بما اختاروه لأنفسهم من تنكب وشرود.
وهكذا يتقرر أن لا جزاء على بذل وأن لا قيمة لعمل إلا أن يرتبط بمنهج الإيمان وإلا أن يكون باعثه الإيمان..
يقول الله هذا ويقرره فلا تبقى بعده كلمة لإنسان; ولا يجادل في هذا القرار إلا الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..