صفحة جزء
ثم ننتقل إلى صفة أخرى من صفات المتقين:

والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ..

يالسماحة هذا الدين! إن الله - سبحانه - لا يدعو الناس إلى السماحة فيما بينهم حتى يطلعهم على جانب من سماحته - سبحانه وتعالى - معهم. ليتذوقوا ويتعلموا ويقتبسوا:

إن المتقين في أعلى مراتب المؤمنين .. ولكن سماحة هذا الدين ورحمته بالبشر تسلك في عداد المتقين " الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " .. والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها . ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها، من رحمة الله. ولا تجعلهم في ذيل القافلة.. قافلة المؤمنين.. إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة.. مرتبة المتقين .. على شرط واحد. شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته..

أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم، وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة، وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء.. وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله، والاستسلام له في النهاية. فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله.

إن هذا الدين ليدرك ضعف هذا المخلوق البشري الذي تهبط به ثقلة الجسد أحيانا إلى درك الفاحشة، وتهيج به فورة اللحم والدم فينزو نزوة الحيوان في حمى الشهوة، وتدفعه نزواته وشهواته وأطماعه ورغباته إلى المخالفة عن أمر الله في حمى الاندفاع. يدرك ضعفه هذا فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى طرده من رحمة الله حين يظلم نفسه. حين يرتكب الفاحشة.. المعصية الكبيرة.. وحسبه أن شعلة الإيمان ما تزال في روحه لم تنطفئ، وأن نداوة الإيمان ما تزال في قلبه لم تجف، وأن صلته بالله ما تزال حية لم تذبل، وأنه يعرف أنه عبد يخطئ وأن له ربا يغفر.. وإذن فما يزال هذا المخلوق الضعيف الخاطئ المذنب بخير.. إنه سائر في الدرب لم ينقطع به الطريق، ممسك بالعروة لم ينقطع به الحبل، فليعثر ما شاء له ضعفه أن يعثر. فهو واصل في النهاية ما دامت الشعلة معه، والحبل في يده. ما دام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره ويقر بالعبودية له ولا يتبجح بمعصيته.

إنه لا يغلق في وجه هذا المخلوق الضعيف الضال باب التوبة، ولا يلقيه منبوذا حائرا في التيه! ولا يدعه مطرودا خائفا من المآب.. إنه يطمعه في المغفرة، ويدله على الطريق، ويأخذ بيده المرتعشة، ويسند خطوته المتعثرة، وينير له الطريق، ليفيء إلى الحمى الآمن، ويثوب إلى الكنف الأمين.

شيء واحد يتطلبه: ألا يجف قلبه، وتظلم روحه، فينسى الله.. وما دام يذكر الله. ما دام في روحه ذلك المشعل الهادي. ما دام في ضميره ذلك الهاتف الحادي. ما دام في قلبه ذلك الندى البليل.. فسيطلع النور في روحه من جديد، وسيؤوب إلى الحمى الآمن من جديد، وستنبت البذرة الهامدة من جديد.

إن طفلك الذي يخطئ ويعرف أن السوط - لا سواه - في الدار.. سيروح آبقا شاردا لا يثوب إلى الدار أبدا. فأما إذا كان يعلم أن إلى جانب السوط يدا حانية، تربت على ضعفه حين يعتذر من الذنب، وتقبل عذره حين يستغفر من الخطيئة.. فإنه سيعود!.

وهكذا يأخذ الإسلام هذا المخلوق البشري الضعيف في لحظات ضعفه .. فإنه يعلم أن فيه بجانب الضعف [ ص: 477 ] قوة، وبجانب الثقلة رفرفة، وبجانب النزوة الحيوانية أشواقا ربانية.. فهو يعطف عليه في لحظة الضعف ليأخذ بيده إلى مراقي الصعود، ويربت عليه في لحظة العثرة ليحلق به إلى الأفق من جديد. ما دام يذكر الله ولا ينساه، ولا يصر على الخطيئة وهو يعلم أنها الخطيئة! والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما أصر من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرة والإسلام لا يدعو - بهذا - إلى الترخص، ولا يمجد العاثر الهابط، ولا يهتف له بجمال المستنقع! كما تهتف "الواقعية" ! إنما هو يقيل عثرة الضعف، ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء، كما يستجيش فيها الحياء! فالمغفرة من الله - ومن يغفر الذنوب إلا الله - تخجل ولا تطمع، وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار.

فأما الذين يستهترون ويصرون، فهم هنالك خارج الأسوار، موصدة في وجوههم الأسوار!.

وهكذا يجمع الإسلام بين الهتاف للبشرية إلى الآفاق العلى، والرحمة بهذه البشرية التي يعلم طاقتها. ويفتح أمامها باب الرجاء أبدا، ويأخذ بيدها إلى أقصى طاقتها".

... هؤلاء المتقون ما لهم؟

أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. ونعم أجر العاملين ..

فهم ليسوا سلبيين بالاستغفار من المعصية. كما أنهم ليسوا سلبيين بالإنفاق في السراء والضراء، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.. إنما هم عاملون. ونعم أجر العاملين .. المغفرة من ربهم، والجنة تجري من تحتها الأنهار بعد المغفرة وحب الله.. فهنالك عمل في أغوار النفس، وهنالك عمل في ظاهر الحياة. وكلاهما عمل، وكلاهما حركة، وكلاهما نماء.

وهنالك الصلة بين هذه السمات كلها وبين معركة الميدان التي يتعقبها السياق.. وكما أن للنظام الربوي - أو النظام التعاوني - أثره في حياة الجماعة المسلمة وعلاقته بالمعركة في الميدان، فكذلك لهذه السمات النفسية والجماعية أثرها الذي أشرنا إليه في مطلع الحديث.. فالانتصار على الشح، والانتصار على الغيظ، والانتصار على الخطيئة، والرجعة إلى الله وطلب مغفرته ورضاه.. كلها ضرورية للانتصار على الأعداء في المعركة. وهم إنما كانوا أعداء لأنهم يمثلون الشح والهوى والخطيئة والتبجح! وهم إنما كانوا أعداء لأنهم لا يخضعون ذواتهم وشهواتهم ونظام حياتهم لله ومنهجه وشريعته. ففي هذا تكون العداوة، وفي هذا تكون المعركة، وفي هذا يكون الجهاد.

وليس هنالك أسباب أخرى يعادي فيها المسلم ويعارك ويجاهد. فهو إنما يعادي لله، ويعارك لله، ويجاهد لله! فالصلة وثيقة بين هذه التوجيهات كلها وبين استعراض المعركة في هذا السياق.. كما أن الصلة وثيقة بينها وبين الملابسات الخاصة التي صاحبت هذه المعركة. من مخالفة عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن طمع في الغنيمة نشأت عنه المخالفة. ومن اعتزاز بالذات والهوى نشأ عنه تخلف عبد الله بن أبي ومن معه.

ومن ضعف بالذنب نشأ عنه تولي من تولى - كما سيرد في السياق - ومن غبش في التصور نشأ عنه عدم رد الأمور إلى الله، وسؤال بعضهم: هل لنا من الأمر من شيء ؟ وقول بعضهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا .. [ ص: 478 ] والقرآن يتناول هذه الملابسات كلها، واحدة واحدة، فيجلوها، ويقرر الحقائق فيها، ويلمس النفوس لمسات موحية تستجيشها وتحييها.. على هذا النحو الفريد الذي نرى نماذج منه في هذا السياق.

التالي السابق


الخدمات العلمية