بعد ذلك يبدأ السياق في الفقرة الثالثة من الاستعراض فيلمس
أحداث المعركة ذاتها، ولكنه ما يزال يتوخى تقرير الحقائق الأساسية الأصيلة في التصور الإسلامي، ويجعل الأحداث مجرد محور ترتكن إليه هذه الحقائق.
وفي هذه الفقرة يبدأ بالإشارة إلى سنة الله الجارية في المكذبين، ليقول للمسلمين إن انتصار المشركين في هذه المعركة ليس هو السنة الثابتة، إنما هو حادث عابر، وراءه حكمة خاصة.. ثم يدعوهم إلى الصبر والاستعلاء بالإيمان. فإن يكن أصابتهم جراح وآلام فقد أصاب المشركين مثلها في المعركة ذاتها. وإنما هنالك حكمة وراء ما وقع يكشف لهم عنها: حكمة تمييز الصفوف، وتمحيص القلوب، واتخاذ الشهداء الذين يموتون دون عقيدتهم; ووقف المسلمين أمام الموت وجها لوجه وقد كانوا يتمنونه، ليزنوا وعودهم وأمانيهم بميزان واقعي!.
ثم في النهاية محق الكافرين، بإعداد الجماعة المسلمة ذلك الإعداد المتين.. وإذن فهي الحكمة العليا من وراء الأحداث كلها سواء كانت هي النصر أو هي الهزيمة.
قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون - إن كنتم مؤمنين إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله. وتلك الأيام نداولها بين الناس. وليعلم الله الذين آمنوا، ويتخذ منكم شهداء، والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين؟ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه، فقد رأيتموه وأنتم تنظرون .
لقد أصاب المسلمين القرح في هذه الغزوة ، وأصابهم القتل والهزيمة. أصيبوا في أرواحهم وأصيبوا في أبدانهم بأذى كثير. قتل منهم سبعون صحابيا، وكسرت رباعية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشج وجهه، وأرهقه المشركون، وأثخن أصحابه بالجراح.. وكان من نتائج هذا كله هزة في النفوس، وصدمة لعلها لم تكن متوقعة بعد النصر العجيب في
بدر ، حتى لقال المسلمون حين أصابهم ما أصابهم:"أنى هذا؟" وكيف تجري الأمور معنا هكذا ونحن المسلمون؟!.
والقرآن الكريم يرد المسلمين هنا إلى سنن الله في الأرض. يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها الأمور. فهم ليسوا بدعا في الحياة فالنواميس التي تحكم الحياة جارية لا تتخلف، والأمور لا تمضي جزافا، إنما هي تتبع هذه النواميس، فإذا هم درسوها، وأدركوا مغازيها، تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع، واطمأنوا إلى ثبات النظام الذي تتبعه الأحداث، وإلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام. واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق. ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين; بدون الأخذ بأسباب النصر ، وفي أولها طاعة الله وطاعة الرسول.
والسنن التي يشير إليها السياق هنا، ويوجه أبصارهم إليها هي :
عاقبة المكذبين على مدار التاريخ. ومداولة الأيام بين الناس. والابتلاء لتمحيص السرائر، وامتحان قوة الصبر على الشدائد، واستحقاق النصر للصابرين والمحق للمكذبين.
وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح، الذي لم يصبهم وحدهم، إنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفا، وأهدى
[ ص: 479 ] منهم طريقا ومنهجا، والعاقبة بعد لهم، والدائرة على الكافرين.
قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ..
إن القرآن ليربط ماضي البشرية بحاضرها، وحاضرها بماضيها، فيشير من خلال ذلك كله إلى مستقبلها.
وهؤلاء
العرب الذين وجه إليهم القول أول مرة لم تكن حياتهم، ولم تكن معارفهم، ولم تكن تجاربهم - قبل الإسلام - لتسمح لهم بمثل هذه النظرة الشاملة. لولا هذا الإسلام - وكتابه القرآن - الذي أنشأهم به الله نشأة أخرى، وخلق به منهم أمة تقود الدنيا..
إن النظام القبلي الذي كانوا يعيشون في ظله، ما كان ليقود تفكيرهم إلى الربط بين سكان
الجزيرة وما جريات حياتهم; فضلا على الربط بين سكان هذه الأرض وأحداثها، فضلا على الربط بين الأحداث العالمية والسنن الكونية التي تجري وفقها الحياة جميعا.. وهي نقلة بعيدة لم تنبع من البيئة، ولم تنشأ من مقتضيات الحياة في ذلك الزمان! إنما حملتها إليهم هذه العقيدة. بل حملتهم إليها! وارتقت بهم إلى مستواها، في ربع قرن من الزمان. على حين أن غيرهم من معاصريهم لم يرتفعوا إلى هذا الأفق من التفكير العالي إلا بعد قرون وقرون; ولم يهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس الكونية، إلا بعد أجيال وأجيال.. فلما اهتدوا إلى ثبات السنن والنواميس نسوا أن معها كذلك طلاقة المشيئة الإلهية، وأنه إلى الله تصير الأمور .. فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها، ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة، فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان - بعد هذا - إلى مشيئته الطليقة!.
قد خلت من قبلكم سنن ..
وهي هي التي تحكم الحياة. وهي هي التي قررتها المشيئة الطليقة. فما وقع منها في غير زمانكم فسيقع مثله - بمشيئة الله - في زمانكم، وما انطبق منها على مثل حالكم فهو كذلك سينطبق على حالكم.
فسيروا في الأرض ..
فالأرض كلها وحدة. والأرض كلها مسرح للحياة البشرية. والأرض والحياة فيها كتاب مفتوح تتملاه الأبصار والبصائر.
فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ..
وهي عاقبة تشهد بها آثارهم في الأرض، وتشهد بها سيرهم التي يتناقلها خلفهم هناك.. ولقد ذكر القرآن الكريم كثيرا من هذه السير ومن هذه الآثار في مواضع منه متفرقة. بعضها حدد مكانه وزمانه وشخوصه.
وبعضها أشار إليه بدون تحديد ولا تفصيل.. وهنا يشير هذه الإشارة المجملة ليصل منها إلى نتيجة مجملة:
إن ما جرى للمكذبين بالأمس سيجري مثله للمكذبين اليوم وغدا. ذلك كي تطمئن قلوب الجماعة المسلمة إلى العاقبة من جهة. وكي تحذر الانزلاق مع المكذبين من جهة أخرى. وقد كان هنالك ما يدعو إلى الطمأنينة وما يدعو إلى التحذير. وفي السياق سيرد من هذه الدواعي الكثير.
وعلى إثر بيان هذه السنة يتجاوب النداء للعظة والعبرة بهذا البيان:
هذا بيان للناس، وهدى وموعظة للمتقين ..
هذا بيان للناس كافة. فهو نقلة بشرية بعيدة ما كان الناس ببالغيها لولا هذا البيان الهادي. ولكن طائفة
[ ص: 480 ] خاصة هي التي تجد فيه الهدى، وتجد فيه الموعظة، وتنتفع به وتصل على هداه.. طائفة "المتقين" ..
إن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المؤمن المفتوح للهدى. والعظة البالغة لا ينتفع بها إلا القلب التقي الذي يخفق لها ويتحرك بها.. والناس قلما ينقصهم العلم بالحق والباطل، وبالهدى والضلال.. إن الحق بطبيعته من الوضوح والظهور بحيث لا يحتاج إلى بيان طويل. إنما تنقص الناس الرغبة في الحق، والقدرة على اختيار طريقه.. والرغبة في الحق والقدرة على اختيار طريقه لا ينشئهما إلا الإيمان، ولا يحفظهما إلا التقوى.. ومن ثم تتكرر في القرآن أمثال هذه التقريرات. تنص على أن ما في هذا الكتاب من حق، ومن هدى، ومن نور، ومن موعظة، ومن عبرة.. إنما هي للمؤمنين وللمتقين. فالإيمان والتقوى هما اللذان يشرحان القلب للهدى والنور والموعظة والعبرة. وهما اللذان يزينان للقلب اختيار الهدى والنور والانتفاع بالموعظة والعبرة.. واحتمال مشقات الطريق.. وهذا هو الأمر، وهذا هو لب المسألة.. لا مجرد العلم والمعرفة.. فكم ممن يعلمون ويعرفون، وهم في حمأة الباطل يتمرغون. إما خضوعا لشهوة لا يجدي معها العلم والمعرفة، وإما خوفا من أذى ينتظر حملة الحق وأصحاب الدعوة!.