ولقد كان
اليهود يشككون في صحة رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان المنافقون يرتابون فيها - كما ارتاب المشركون وشككوا في
مكة وغيرها - فهنا يتحدى القرآن الجميع. إذ كان الخطاب إلى "الناس" جميعا. يتحداهم بتجربة واقعية تفصل في الأمر بلا مماحكة:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله، وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ..
ويبدأ هذا التحدي بلفتة لها قيمتها في هذا المجال.. يصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعبودية لله:
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا .. ولهذا الوصف في هذا الموضع دلالات منوعة متكاملة:
فهو أول تشريف للنبي وتقريب بإضافة عبوديته لله تعالى; دلالة على أن مقام العبودية لله هو أسمى مقام يدعى إليه بشر ويدعى به كذلك. وهو ثانيا تقرير لمعنى العبودية، في مقام دعوة الناس كافة إلى عبادة ربهم وحده، واطراح الأنداد كلها من دونه. فها هو ذا النبي في مقام الوحي - وهو أعلى مقام - يدعى بالعبودية لله، ويشرف بهذه النسبة في هذا المقام.
أما التحدي فمنظور فيه إلى مطلع السورة.. فهذا الكتاب المنزل مصوغ من تلك الحروف التي في أيديهم، فإن كانوا يرتابون في تنزيله، فدونهم فليأتوا بسورة من مثله; وليدعوا من يشهد لهم بهذا - من دون الله - فالله قد شهد لعبده بالصدق في دعواه.
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم – وبعدها ، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها..
وما يزال
القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا.
وسيظل كذلك أبدا.
سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية:
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ..
والتحدي هنا عجيب، والجزم بعدم إمكانه أعجب، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة.
وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها. ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لانهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس..
[ ص: 49 ]
وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية.
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء; وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء; وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر.. لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر. والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز، أو غرض يلبس الحق بالباطل..
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح:
فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ..
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين.
الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة .. والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون، ثم لا يستجيبون.. فهم إذن حجارة من الحجارة! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر! على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع: مشهد النار التي تأكل الأحجار.
ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار.. في النار..
وفي مقابل ذلك المشهد المفزع يعرض المشهد المقابل. مشهد
النعيم الذي ينتظر المؤمنين :
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل، وأتوا به متشابها، ولهم فيها أزواج مطهرة، وهم فيها خالدون ..
وهي ألوان من النعيم يستوقف النظر منها - إلى جانب الأزواج المطهرة - تلك الثمار المتشابهة، التي يخيل إليهم أنهم رزقوها من قبل - أما ثمار الدنيا التي تشبهها بالاسم أو الشكل، وأما ثمار الجنة التي رزقوها من قبل - فربما كان في هذا التشابه الظاهري والتنوع الداخلي مزية المفاجأة في كل مرة.. وهي ترسم جوا من الدعابة الحلوة، والرضى السابغ، والتفكه الجميل، بتقديم المفاجأة بعد المفاجأة، وفي كل مرة ينكشف التشابه الظاهري عن شيء جديد!
وهذا التشابه في الشكل، والتنوع في المزية، سمة واضحة في صنعة البارئ تعالى، تجعل الوجود أكبر في حقيقته من مظهره. ولنأخذ الإنسان وحده نموذجا كاشفا لهذه الحقيقة الكبيرة.. الناس كلهم ناس، من ناحية قاعدة التكوين: رأس وجسم وأطراف. لحم ودم وعظام وأعصاب. عينان وأذنان وفم ولسان.
خلايا حية من نوع الخلايا الحية. تركيب متشابه في الشكل والمادة.. ولكن أين غاية المدى في السمات والشيات؟ ثم أين غاية المدى في الطباع والاستعدادات؟ إن فارق ما بين إنسان وإنسان - على هذا التشابه - ليبلغ أحيانا أبعد مما بين الأرض والسماء!
وهكذا يبدو التنوع في صنعة البارئ هائلا يدير الرؤوس: التنوع في الأنواع والأجناس، والتنوع في الأشكال والسمات، والتنوع في المزايا والصفات.. وكله.. كله مرده إلى الخلية الواحدة المتشابهة التكوين والتركيب.
[ ص: 50 ] فمن ذا الذي لا يعبد الله وحده، وهذه آثار صنعته، وآيات قدرته؟ ومن ذا الذي يجعل لله أندادا، ويد الإعجاز واضحة الآثار، فيما تراه الأبصار، وفيما لا تدركه الأبصار؟