ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة; واتخاذها محورا للتعقيبات، يتوخى بها تصحيح التصور، وتربية الضمائر، والتحذير من مزالق الطريق، والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد، وما يبيته لها أعداؤها المتربصون:
ولقد كانت الهزيمة في
أحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في
المدينة . وكانت
المدينة لم تخلص بعد للإسلام; بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير. نبتة غريبة أحاطتها
بدر بسياج من الرهبة، بما كان فيها من النصر الأبلج. فلما كانت الهزيمة في
أحد تغير الموقف إلى حد كبير; وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم، وأن ينفثوا سمومهم; وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف.
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه - وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها - نسمع
الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ; ونسمعه - سبحانه - يعدهم النصر على عدوهم، وإلقاء الرعب في قلبه; ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة، حسب وعده لهم; والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه، في صورة فائضة بالحيوية والحركة. ثم ما أعقب الهزيمة والفزع، من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم; بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين، الذين ساء ظنهم بالله سبحانه. ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف، في سير الأحداث سيرتها تلك، مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد. ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت
[ ص: 490 ] والاستشهاد. ويردهم إلى حقيقة البعث، التي ينتهي إليها الناس.. ماتوا أو قتلوا.. وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال:
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار، وبئس مثوى الظالمين ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه، حتى إذا فشلتم، وتنازعتم في الأمر، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون: منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم، ولقد عفا عنكم، والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد، والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم، والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة، نعاسا يغشى طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية، يقولون: هل لنا من الأمر من شيء؟ قل: إن الأمر كله لله. يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك. يقولون: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. قل: لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم. وليبتلي الله ما في صدوركم، وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم، إن الله غفور حليم يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم. والله يحيي ويميت، والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون ..
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة الحيوية، ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي، وفي الحياة الإنسانية. وفي السنن الكونية.. نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة، فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر; وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها، وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها.. من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس، البانية للتصور الصحيح.
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها، وهذه الحقائق كلها، في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري. يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب، وطاقات الأداء، وبخاصة من يعالجون منهم التعبير، ويعانون أسرار الأداء!.
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ..
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في
المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح، ليثبطوا عزائمهم، ويخوفوهم عاقبة السير مع
محمد ، ويصوروا لهم مخاوف القتال، وعواقب الاشتباك مع مشركي
قريش وحلفائهم.. وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب، وخلخلة الصفوف، وإشاعة عدم الثقة في القيادة; والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء; وتزيين الانسحاب منها، ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والآلام الفردية وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة، ثم لهدم كيان العقيدة، ثم للاستسلام
[ ص: 491 ] للأقوياء الغالبين!.
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة. فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر. فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار، ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين، محافظا على موقفه، ومحتفظا بدينه.. إنه قد يخيل إليه هذا.. يخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح، أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم، وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه! وهو وهم كبير. فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان، لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين، والاستماع إليهم، والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى..
إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته ، وأن يستمع إلى وسوستهم، وأن يطيع توجيهاتهم..
الهزيمة بادئ ذي بدء. فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية، والارتداد على عقبيه إلى الكفر، ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس.. إن المؤمن يجد في عقيدته، وفي قيادته، غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته. فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب.. حقيقة فطرية وحقيقة واقعية، ينبه الله المؤمنين لها، ويحذرهم إياها، وهو يناديهم باسم الإيمان:
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين ..
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب، من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم، فهو وهم، يضرب السياق صفحا عنه، ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية:
بل الله مولاكم، وهو خير الناصرين .
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية، ويطلبون عندها النصرة.
ومن كان الله مولاه ، فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟