ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة. جولة محورها شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحقيقته النبوية الكريمة ; وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة; ومدى ما يتجلى فيها من
رحمة الله بهذه الأمة.. وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة، وأسس هذا التنظيم; ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها، ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة:
[ ص: 500 ] فبما رحمة من الله لنت لهم. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله، إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما كان لنبي أن يغل. ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله، ومأواه جهنم وبئس المصير؟ هم درجات عند الله، والله بصير بما يعملون لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلو عليهم آياته ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ..
وننظر في هذه الفقرة، وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها - وهي الحقيقة النبوية الكريمة - فنجد كذلك أصولا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة.. نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس..
ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية - وهو الشورى - يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى - في ظاهر الأمر - نتائج مريرة! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي - بعد الشورى - في مضاء وحسم. ونجد حقيقة التوكل على الله - إلى جانب الشورى والمضاء - حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية. ونجد حقيقة قدر الله، ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج. ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة. ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله، تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة.. وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأمة، المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم، كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء!.
هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات!
فبما رحمة من الله لنت لهم. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك. فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر. فإذا عزمت فتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين .
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي نفسه شيء من القوم; تحمسوا للخروج، ثم اضطربت صفوفهم، فرجع ثلث الجيش قبل المعركة; وخالفوا - بعد ذلك - عن أمره، وضعفوا أمام إغراء الغنيمة، ووهنوا أمام إشاعة مقتله، وانقلبوا على أعقابهم مهزومين، وأفردوه في النفر القليل، وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم، وهم لا يلوون على أحد.. يتوجه إليه - صلى الله عليه وسلم - يطيب قلبه، وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به. ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم ، الذي تتجمع حوله القلوب.. ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه - صلى الله عليه وسلم - فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه; وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم. ثم يدعوه أن يعفو عنهم، ويستغفر الله لهم.. وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم; غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية.
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ..
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم; فجعلته - صلى الله عليه وسلم - رحيما بهم، لينا معهم. ولو كان فظا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب، ولا تجمعت حوله المشاعر. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى
[ ص: 501 ] رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء; ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه; ويجدون عنده دائما الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهكذا كانت حياته مع الناس. ما غضب لنفسه قط. ولا ضاق صدره بضعفهم البشري. ولا احتجز لنفسه شيئا من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية. ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم. وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه; نتيجة لما أفاض عليه - صلى الله عليه وسلم - من نفسه الكبيرة الرحيبة.
وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته.. يذكرهم بها في هذا الموقف. ليرتب عليها ما يريده - سبحانه - لحياة هذه الأمة من تنظيم:
فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر ..
وبهذا النص الجازم:
وشاورهم في الأمر .. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى
ومحمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن
الشورى مبدأ أساسي ، لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.. أما شكل الشورى، والوسيلة التي تتحقق بها، فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة، تتم بها حقيقة الشورى - لا مظهرها - فهي من الإسلام.
لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة! فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في
المدينة محتمين بها، حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين.
وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد
عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش، والعدو على الأبواب - وهو حدث ضخم وخلل مخيف - كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن - في ظاهرها - أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ أنها كانت مخالفة "للسوابق" في الدفاع عن
المدينة - كما قال
عبد الله بن أبي - وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية، فبقوا فعلا في
المدينة ، وأقاموا
الخندق ، ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في
أحد !.
ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج.
فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة، التي رآها، والتي يعرف مدى صدقها. وقد تأولها قتيلا من أهل بيته، وقتلى من صحابته، وتأول
المدينة درعا حصينة.. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى.. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ، وتعليم الجماعة، وتربية الأمة، أكبر من الخسائر الوقتية .
ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة. أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف; وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة، ويربيها، ويعدها لقيادة البشرية. وكان الله يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة، أن تربى بالشورى; وأن تدرب على حمل التبعة، وأن تخطئ - مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها، وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ..
[ ص: 502 ] والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها، إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها، وتخسر وجودها، وتخسر تربيتها، وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي - مثلا - لتوفير العثرات والخبطات، أو توفير الحذاء!.
كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها، ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها، ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية، كي تدرب عليها في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى، ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشؤون - كمعركة
أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا، وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب - ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون، لكان وجود
محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعه الوحي من الله سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ضل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمة. ولكن وجود
محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث، ووجود تلك الملابسات، لم يلغ هذا الحق. لأن الله - سبحانه - يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون، ومهما تكن النتائج، ومهما تكن الخسائر، ومهما يكن انقسام الصف، ومهما تكن التضحيات المريرة، ومهما تكن الأخطار المحيطة.. لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة، المدربة بالفعل على الحياة; المدركة لتبعات الرأي والعمل، الواعية لنتائج الرأي والعمل.. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي، في هذا الوقت بالذات:
فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر ..
ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله; وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق; وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة، كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة، ولو كان هو انقسام الصف، كما وقع في
أحد والعدو على الأبواب.. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق!.
على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية; فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق، ولا تغني كذلك عن
التوكل على الله في نهاية المطاف:
فإذا عزمت فتوكل على الله. إن الله يحب المتوكلين ..
إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي ، واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة، فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد، انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ.. التنفيذ في عزم وحسم، وفي توكل على الله، يصل الأمر بقدر الله، ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء.
وكما ألقى النبي - صلى الله عليه وسلم - درسه النبوي الرباني، وهو يعلم الأمة الشورى، ويعلمها إبداء، الرأي، واحتمال تبعته بتنفيذه، في أخطر الشؤون وأكبرها.. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى، وفي التوكل على الله ، وإسلام النفس لقدره - على علم بمجراه واتجاهه - فأمضى الأمر في الخروج،
[ ص: 503 ] ودخل بيته فلبس درعه ولأمته - وهو يعلم إلى أين هو ماض، وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات.. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين، وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه - صلى الله عليه وسلم - على ما لا يريد، وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى.. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع. لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي. مع التوكل على الله والاستسلام لقدره . وأن يعلمهم أن للشورى وقتها، ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد.
فهذا مآله الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي.. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على الله، يحبه الله:
إن الله يحب المتوكلين ..
والخلة التي يحبها الله ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون. بل هي التي تميز المؤمنين..
والتوكل على الله، ورد الأمر إليه في النهاية، هو خط التوازن الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية.
وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة: حقيقة أن مرد الأمر كله لله، وأن الله فعال لما يريد..
لقد كان هذا درسا من دروس
أحد الكبار. هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها، وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان..