[ ص: 522 ] وأخيرا يتجه السياق في ختام الاستعراض والتعقيب، إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسليه ويوسيه عما يقع في قلبه الكريم من الأسى والحزن، من مسارعة الكفار إلى الكفر، ونشاطهم فيه كأنهم في سباق إلى هدف! فإن هذا لن يضر الله شيئا. وإنما هي فتنة الله لهم، وقدر الله بهم، فقد علم الله من أمرهم وكفرهم ما يؤهلهم للحرمان في الآخرة فتركهم يسارعون في الكفر إلى نهايته! وقد كان الهدى مبذولا لهم، فآثروا عليه الكفر; فتركوا يسارعون في الكفر. وأملى لهم ليزدادوا إثما مع الإملاء في الزمن والإملاء في الرخاء.
فهذا الإمهال والإملاء إنما هو وبال عليهم وبلاء.. ويختم الاستعراض بكشف حكمة الله وتدبيره من وراء الأحداث كلها: من وراء ابتلاء المؤمنين وإمهال الكافرين . إنها
تمييز الخبيث من الطيب، بالاختبار والابتلاء، فقد كان أمر القلوب غيبا مما يستأثر الله به، ولا يطلع الناس عليه، فشاء سبحانه أن يكشف هذا الغيب بالصورة المناسبة للبشر، وبالوسيلة التي يدركها البشر.. فكان الابتلاء للمؤمنين والإمهال للكافرين، ليتكشف المخبوء في القلوب، ويتميز الخبيث من الطيب; ويتبين المؤمنون بالله ورسله على وجه القطع واليقين:
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، إنهم لن يضروا الله شيئا، يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة، ولهم عذاب عظيم إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا، ولهم عذاب أليم ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، ولهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه، حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فآمنوا بالله ورسله، وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ..
إن هذا الختام هو أنسب ختام لاستعراض الغزوة التي أصيب فيها المسلمون هذه الإصابة; والتي رجع منها المشركون بالنصر والغلبة.. فهناك دائما تلك الشبهة الكاذبة التي تحيك في بعض الصدور; أو الأمنية العاتبة التي تهمس في بعض القلوب، أمام المعارك التي تنشب بين الحق والباطل. ثم يعود فيها الحق بمثل هذه الإصابة، ويعود منها الباطل ذا صولة وجولة!.
هناك دائما الشبهة الكاذبة، أو الأمنية العاتبة: لماذا يا رب؟ لماذا يصاب الحق وينجو الباطل؟ لماذا يبتلى أهل الحق وينجو أهل الباطل؟ ولماذا لا ينتصر الحق كلما التقى مع الباطل، ويعود بالغلبة والغنيمة؟ أليس هو الحق الذي ينبغي أن ينتصر؟ وفيم تكون للباطل هذه الصولة؟ وفيم يعود الباطل من صدامه مع الحق بهذه النتيجة، وفيها فتنة للقلوب وهزة؟!.
ولقد وقع بالفعل أن قال المسلمون يوم
أحد في دهشة واستغراب:
أنى هذا؟! ..
ففي هذا المقطع الختامي يجيء الجواب الأخير، والبيان الأخير. ويريح الله القلوب المتعبة، ويجلو كل خاطرة تتدسس إلى القلوب من هذه الناحية، ويبين سنته وقدره وتدبيره في الأمر كله : أمس واليوم وغدا وحيثما التقى الحق والباطل في معركة فانتهت بمثل هذه النهاية:
إن ذهاب الباطل ناجيا في معركة من المعارك. وبقاءه منتفشا فترة من الزمان، ليس معناه أن الله تاركه، أو أنه من القوة بحيث لا يغلب، أو بحيث يضر الحق ضررا باقيا قاضيا..
وإن ذهاب الحق مبتلى في معركة من المعارك، وبقاءه ضعيف الحول فترة من الزمان، ليس معناه إن الله مجافيه أو ناسيه! أو أنه متروك للباطل يقتله ويرديه..
كلا. إنما هي حكمة وتدبير.. هنا وهناك.. يملي للباطل ليمضي إلى نهاية الطريق; وليرتكب أبشع الآثام، وليحمل أثقل الأوزار، ولينال أشد العذاب باستحقاق! .. ويبتلى الحق، ليميز الخبيث من الطيب، ويعظم
[ ص: 523 ] الأجر لمن يمضي مع الابتلاء ويثبت.. فهو الكسب للحق والخسار للباطل، مضاعفا هذا وذاك! هنا وهناك!.
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر، إنهم لن يضروا الله شيئا، يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة، ولهم عذاب عظيم ..
إنه يواسي النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدفع عنه الحزن الذي يساور خاطره ; وهو يرى المغالين في الكفر، يسارعون فيه، ويمضون بعنف واندفاع وسرعة، كأنما هنالك هدف منصوب لهم يسارعون إلى بلوغه!.
وهو تعبير مصور لحالة نفسية واقعية. فبعض الناس يرى مشتدا في طريق الكفر والباطل والشر والمعصية; كأنه يجهد لنيل السبق فيه! فهو يمضي في عنف واندفاع وحماسة كأن هناك من يطارده من الخلف، أو من يهتف له من الأمام، إلى جائزة تنال!.
وكان الحزن يساور قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسرة على هؤلاء العباد; الذين يراهم مشمرين ساعين إلى النار، وهو لا يملك لهم ردا، وهم لا يسمعون له نذارة! وكان الحزن يساور قلبه كذلك لما يثيره هؤلاء المشمرون إلى النار المسارعون في الكفر، من الشر والأذى يصيب المسلمين، ويصيب دعوة الله، وسيرها بين الجماهير، التي كانت تنتظر نتائج المعركة مع
قريش لتختار الصف الذي تنحاز إليه في النهاية.. فلما أسلمت
قريش واستسلمت دخل الناس في دين الله أفواجا.. ومما لا شك فيه أنه كان لهذه الاعتبارات وقعها في قلب الرسول الكريم. فيطمئن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويواسي قلبه، ويمسح عنه الحزن الذي يساوره.
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر. إنهم لن يضروا الله شيئا ..
وهؤلاء العباد المهازيل لا يبلغون أن يضروا الله شيئا. والأمر في هذا لا يحتاج إلى بيان. إنما يريد الله سبحانه أن يجعل قضية العقيدة قضيته هو; وأن يجعل المعركة مع المشركين معركته هو. ويريد أن يرفع عبء هذه العقيدة وعبء هذه المعركة عن عاتق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعاتق المسلمين جملة.. فالذين يسارعون في الكفر يحاربون الله ، وهم أضعف من أن يضروا الله شيئا.. وهم إذن لن يضروا دعوته. ولن يضروا حملة هذه الدعوة. مهما سارعوا في الكفر، ومهما أصابوا أولياء الله بالأذى.
إذن لماذا يتركهم الله يذهبون ناجين، وينتفشون غالبين، وهم أعداؤه المباشرون؟
لأنه يدبر لهم ما هو أنكى وأخزى!.
يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ..
يريد لهم أن يستنفدوا رصيدهم كله; وأن يحملوا وزرهم كله، وأن يستحقوا عذابهم كله، وأن يمضوا مسارعين في الكفر إلى نهاية الطريق!.
ولهم عذاب عظيم ..
ولماذا يريد الله بهم هذه النهاية الفظيعة؟ لأنهم استحقوها بشرائهم الكفر بالإيمان.
إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم ..
ولقد كان الإيمان في متناول أيديهم. دلائله مبثوثة في صفحات الكون، وفي أعماق الفطرة. وأماراته قائمة في "تصميم" هذا الوجود العجيب، وفي تناسقه وتكامله الغريب، وقائمة كذلك في "تصميم" الفطرة المباشرة، وتجاوبها مع هذا الوجود، وشعورها باليد الصانعة، وبطابع الصنعة البارعة.. ثم إن الدعوة إلى الإيمان - بعد هذا كله - قائمة على لسان الرسل، وقائمة في طبيعة الدعوة وما فيها من تلبية الفطرة، ومن جمال
[ ص: 524 ] التناسق، ومن صلاحية للحياة والناس..
أجل كان الإيمان مبذولا لهم، فباعوه واشتروا به الكفر، على علم وعن بينة، ومن هنا استحقوا أن يتركهم الله يسارعون في الكفر، ليستنفدوا رصيدهم كله، ولا يستبقوا لهم حظا من ثواب الآخرة. ومن هنا كذلك كانوا أضعف من أن يضروا الله شيئا. فهم في ضلالة كاملة ليس معهم من الحق شيء. ولم ينزل الله بالضلالة سلطانا; ولم يجعل في الباطل قوة. فهم أضعف من أن يضروا أولياء الله ودعوته، بهذه القوة الضئيلة الهزيلة، مهما انتفشت، ومهما أوقعت بالمؤمنين من أذى وقتي إلى حين!.
ولهم عذاب أليم ..
أشد إيلاما - بما لا يقاس - مما يملكون إيقاعه بالمؤمنين من آلام!.
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم. إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. ولهم عذاب مهين ..
وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور، والشبهة التي تجول في بعض القلوب، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق، متروكين لا يأخذهم العذاب، ممتعين في ظاهر الأمر، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم; ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية; يحسبون أن الله - حاشاه - يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان، فيملي له ويرخي له العنان! أو يحسبون أن الله - سبحانه - لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل، فيدع للباطل أن يحطم الحق، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب؟! أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر! ثم.. يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين، يلجون في عتوهم، ويسارعون في كفرهم، ويلجون في طغيانهم، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم!!!.
وهذا كله وهم باطل، وظن بالله غير الحق، والأمر ليس كذلك. وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن.. إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه، وإذا كان يعطيهم حظا في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه.. إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء، فإنما هي الفتنة; وإنما هو الكيد المتين، وإنما هو الاستدراج البعيد:
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم.. إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ! ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة، بالابتلاء الموقظ، لابتلاهم.. ولكنه لا يريد بهم خيرا، وقد اشتروا الكفر بالإيمان، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة - غمرة النعمة والسلطان - بالابتلاء!.
ولهم عذاب مهين ..
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء.
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير . فإذا أصابت أولياءه، فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم - ولو وقع الابتلاء مترتبا على تصرفات هؤلاء الأولياء - فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين.
[ ص: 525 ] وهكذا تستقر القلوب، وتطمئن النفوس، وتستقر الحقائق الأصيلة البسيطة في التصور الإسلامي الواضح المستقيم.
ولقد شاءت حكمة الله وبره بالمؤمنين، أن يميزهم من المنافقين ، الذين اندسوا في الصفوف، تحت تأثير ملابسات شتى، ليست من حب الإسلام في شيء . فابتلاهم الله هذا الابتلاء - في
أحد - بسبب من تصرفاتهم وتصوراتهم، ليميز الخبيث من الطيب، عن هذا الطريق:
ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب. وما كان الله ليطلعكم على الغيب. ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء. فآمنوا بالله ورسله. وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ..
ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله - سبحانه - وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطا غير مميز; يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام. فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا ، ولتحمل منهجا إلهيا عظيما، ولتنشئ في الأرض واقعا فريدا، ونظاما جديدا.. وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل.. وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض; وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة..
وكل هذا يقتضي أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث. وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة. وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر.. ومن ثم كان شأن الله - سبحانه - أن يميز الخبيث من الطيب ، ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة! كذلك ما كان من شأن الله - سبحانه - أن يطلع البشر على الغيب، الذي استأثر به، فهم ليسوا مهيئين بطبيعتهم التي فطرهم عليها للاطلاع على الغيب، وجهازهم البشري الذي أعطاه الله لهم ليس "مصمما" على أساس استقبال هذا الغيب إلا بمقدار. وهو مصمم هكذا بحكمة. مصمم لأداء وظيفة الخلافة في الأرض.
وهي لا تحتاج للاطلاع على الغيب. ولو فتح الجهاز الإنساني على الغيب لتحطم. لأنه ليس معدا لاستقباله إلا بالمقدار الذي يصل روحه بخالقه، ويصل كيانه بكيان هذا الكون. وأبسط ما يقع له حين يعلم مصائره كلها، ألا يحرك يدا ولا رجلا في عمارة الأرض، أو أن يظل قلقا مشغولا بهذه المصائر، بحيث لا تبقى فيه بقية لعمارة الأرض!.
من أجل ذلك لم يكن من شأن الله سبحانه، ولا من مقتضى حكمته، ولا من مجرى سنته أن يطلع الناس على الغيب .
إذن
كيف يميز الله الخبيث من الطيب؟ وكيف يحقق شأنه وسنته في تطهير الصف المسلم، وتجريده من الغبش، وتمحيصه من النفاق ، وإعداده للدور الكوني العظيم، الذي أخرج الأمة المسلمة لتنهض به؟
ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ..
وعن طريق الرسالة، وعن طريق الإيمان بها أو الكفر، وعن طريق جهاد الرسل في تحقيق مقتضى الرسالة، وعن طريق الابتلاء لأصحابهم في طريق الجهاد.. عن طريق هذا كله يتم شأن الله، وتتحقق سنته، ويميز الله
[ ص: 526 ] الخبيث من الطيب، ويمحص القلوب، ويطهر النفوس.. ويكون من قدر الله ما يكون..
وهكذا يرفع الستار عن جانب من حكمة الله، وهي تتحقق في الحياة; وهكذا تستقر هذه الحقيقة على أرض صلبة مكشوفة منيرة..
وأمام مشهد الحقيقة متجلية بسيطة مريحة، يتجه إلى الذين آمنوا ليحققوا في ذواتهم مدلول الإيمان ومقتضاه، ويلوح لهم بفضل الله العظيم، الذي ينتظر المؤمنين.
فآمنوا بالله ورسله. وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ..
فيكون هذا التوجيه وهذا الترغيب، بعد ذلك البيان وذلك الاطمئنان، خير خاتمة لاستعراض الأحداث في
"أحد" والتعقيب على هذه الأحداث..