إن الدين هو النظام الذي قرره الله للحياة البشرية بجملتها ، والمنهج الذي يسير عليه نشاط الحياة برمتها [ ص: 562 ] والله وحده هو صاحب الحق في وضع هذا المنهج بلا شريك. والدين هو الاتباع والطاعة للقيادة الربانية التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع، ومنها وحدها يكون التلقي، ولها وحدها يكون الاستسلام.. فالمجتمع المسلم مجتمع له قيادة خاصة - كما له عقيدة خاصة وتصور خاص - قيادة ربانية متمثلة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفيما يبلغه عن ربه مما هو باق بعده من شريعة الله ومنهجه. وتبعية هذا المجتمع لهذه القيادة هي التي تمنحه صفة الإسلام وتجعل منه " مجتمعا مسلما " . وبغير هذه التبعية المطلقة لا يكون " مسلما " بحال. وشرط هذه التبعية هو التحاكم إلى الله والرسول، ورد الأمر كله إلى الله ، والرضى بحكم رسوله وتنفيذه مع القبول والتسليم.
وتبلغ نصوص السورة في بيان هذه الحقيقة، وتقرير هذا الأصل، مبلغا حاسما جازما، لا سبيل للجدال فيه، أو الاحتيال عليه، أو تمويهه وتلبيسه، لأنها من القوة والوضوح والحسم بحيث لا تقبل الجدال! وتقرير هذا المبدأ الأساسي يتمثل في نصوص كثيرة كثرة واضحة في السورة. وسيجيء استعراضها التفصيلي في مكانها من السياق. فنكتفي هنا بذكر بعضها إجمالا:
وهكذا يتحدد معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، ونظام المجتمع المسلم، ومنهجه في الحياة.
وهكذا لا يعود الإيمان مجرد مشاعر وتصورات ولا يعود الإسلام مجرد كلمات وشعارات، ولا مجرد شعائر تعبدية وصلوات.. إنما هو إلى جانب هذا وذلك، وقبل هذا وذلك. نظام يحكم، ومنهج يتحكم، وقيادة تطاع، ووضع يستند إلى نظام معين، ومنهج معين، وقيادة معينة. وبغير هذا كله لا يكون إيمان، ولا يكون إسلام، ولا يكون مجتمع ينسب نفسه إلى الإسلام.
وتترتب على إقرار هذا المبدأ الأساسي توجيهات كثيرة في السورة. كلها تفريعات على هذا الأصل الكبير:
1 - يترتب عليه أن تكون التنظيمات الاجتماعية كلها في المجتمع - شأنها شأن الشعائر التعبدية - مرتكنة إلى هذا الأصل الكبير، مستندة إلى معنى الدين، وحد الإيمان، وشرط الإسلام، على هذا النحو الذي قررته تلك النماذج التي أسلفنا. فهي ليست مجرد تنظيمات وتشريعات. إنما هي مقتضى الإيمان بالله والاعتراف بألوهيته، [ ص: 563 ] وإفراده بالألوهية، والتلقي من القيادة التي يحددها.. ومن ثم نرى كل التشريعات والتنظيمات التي أشرنا إليها تستند إلى هذه الجهة، وينص في أعقابها نصا على هذه الحقيقة:
آية الافتتاح التي تقرر وحدة البشرية ، وتدعو الناس إلى رعاية وشيجة الرحم، وتعد مقدمة لسائر التنظيمات التي تلتها في السورة.. تبدأ بدعوة الناس إلى تقوى ربهم الذي خلقهم من نفس واحدة: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة .. وتنتهي إلى تقواه، وتحذيرهم من رقابته: إن الله كان عليكم رقيبا ..
والآيات التي تحض على رعاية أموال اليتامى ، وتبين طريقة التصرف في أموالهم تنتهي بالتذكير بالله وحسابه:
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا .. تسبق في الآية الوصية بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين.. إلخ وهكذا ترتبط سائر التنظيمات والتشريعات بالله، وتستمد من شريعته، وترجع الأمور كلها إلى هذه القيادة التي لها وحدها حق الطاعة والاتباع.
2 - ويترتب على إقرار ذلك الأصل الكبير أن يكون ولاء المؤمنين لقيادتهم ولجماعتهم المؤمنة . فلا يتولوا أحدا لا يؤمن إيمانهم، ولا يتبع منهجهم، ولا يخضع لنظامهم، ولا يتلقى من قيادتهم كائنة ما كانت العلاقة التي تربطهم بهذا الأحد علاقة قرابة، أو جنس. أو أرض أو مصلحة. وإلا فهو الشرك أو النفاق، وهو الخروج من الصف المسلم على كل حال:
وتدل هذه الآيات على مكان الصلاة من الحياة الإسلامية حتى لتذكر في مقام الخوف، وتبين كيفياتها في هذا المقام كما تدل على تكامل هذا المنهج، في مواجهة الحياة الإنسانية في كل حالاتها ومتابعة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في كل لحظة وفي كل حال..
وفي قطاع الجهاد - وفي غيره من القطاعات الأخرى في السورة - نلتقي بالحرب المشبوبة على الجماعة المسلمة، وعلى العقيدة الإسلامية، والقيادة الإسلامية كذلك، من أهل الكتاب - وبخاصة اليهود - وحلفائهم من المنافقين في المدينة ، والمشركين في مكة ، وما حولهما.. وهي الحرب التي التقينا بها في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران، من قبل.. ونلتقي كذلك بالمنهج الرباني. وهو يأخذ بيد الجماعة المسلمة السائرة بين الأشواك الخبيثة، والأحابيل الماكرة، يقودها، ويوجهها، ويحذرها، ويكشف لها طبيعة أعدائها، وطبيعة المعركة التي تخوضها، وطبيعة الأرض التي تدور فيها المعركة، وزواياها وجوانبها الخبيثة.