ثم يمضي القرآن - وهو يخوض المعركة بالجماعة المسلمة مع اليهود في
المدينة - يعجب من أمر هؤلاء الخلق; الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار; ويثنون على أنفسهم; ويزكونها; بينما هم يحرفون الكلم عن مواضعه، ويتطاولون على الله ورسوله - كما سبق - وبينما هم يؤمنون بالجبت والطاغوت - كما سيجيء - كاذبين على الله في تزكيتهم لأنفسهم، وفي زعمهم أنهم مقربون إليه مهما عملوا من السوء!:
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم؟ بل الله يزكي من يشاء، ولا يظلمون فتيلا انظر كيف يفترون على الله الكذب! وكفى به إثما مبينا ..
ودعوى اليهود أنهم شعب الله المختار هي دعواهم من قديم. وقد اختارهم الله فعلا لحمل الأمانة وأداء الرسالة، وفضلهم على العالمين في ذلك الأوان وأهلك لهم
فرعون وملأه، وأورثهم
الأرض المقدسة .. ولكنهم هم انحرفوا بعد ذلك عن منهج الله; وعتوا في الأرض عتوا كبيرا، واجترحوا السيئات التي تضج منها الأرض، وأحل لهم أحبارهم ما حرم الله وحرموا عليهم ما أحله لهم، واتبعوهم; ولم ينكروا عليهم حق الألوهية هذا الذي ادعوه عمليا - بهذا التحريم والتحليل - وقد بدل هؤلاء الأحبار في شريعة الله، ليرضوا ذوي السلطان والشرفاء; وليملقوا كذلك رغبات الجماهير وأهواءهم. وبذلك اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله. وأكلوا الربا.. ووهنت علاقتهم بدين الله وكتابه الذي أنزله عليهم.. وعلى الرغم من ذلك كله - وغيره كثير - فقد ظلوا يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه. وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة. وأنه لا يهتدي ولا يقبل عند الله إلا من كان هودا! كأن المسألة مسألة قرابة ونسب ومحاباة بينهم وبين الله - تعالى عن ذلك علوا كبيرا - فالله لا تصل بينه وبين أحد من خلقه قرابة ولا نسب; إنما تربط عباده به العقيدة المستقيمة والعمل الصالح، والاستقامة على منهج الله.. فمن أخل بهذا فقد غضب الله عليه. ويشتد غضبه إذا كان قد آتى الضالين الهدى فانحرفوا عنه! وما شأن هؤلاء اليهود إلا شأن من يزعمون الإسلام اليوم، ويحسبون أنهم من أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله لا بد ناصرهم، ومخرج لهم اليهود من أرضهم.. بينما هم ينسلخون انسلاخا كاملا من دين الله الذي هو منهجه للحياة فينبذونه من حياتهم; ولا يتحاكمون إلى كتاب الله لا في أقضيتهم ولا في اقتصادهم، ولا في اجتماعهم، ولا في آدابهم، ولا في تقاليدهم. وكل ما لهم من الإسلام أسماء المسلمين! وأنهم ولدوا
[ ص: 680 ] في أرض كان المسلمون يسكنونها ذات يوم! ويقيمون فيها دين الله، ويحكمون منهجه في الحياة! والله يعجب رسوله - صلى الله عليه وسلم - من أمر أولئك اليهود الذين يزكون أنفسهم. وأمر " المسلمين" المعاصرين أعجب، وأشد إثارة للتعجيب والتعجب!!
إنه
ليس الناس هم الذين يزكون أنفسهم ويشهدون لها بالصلاح والقرب من الله واختيار الله. إنما الله هو الذي يزكي من يشاء. فهو أعلم بالقلوب والأعمال. ولن يظلم الناس شيئا، إذا هم تركوا هذا التقدير لله - سبحانه - واتجهوا إلى العمل. لا إلى الادعاء. فلئن عملوا - وهم ساكتون متواضعون في حياء من الله، وبدون تزكية ولا ادعاء - فلن يغبنوا عند الله; ولن ينسى لهم عمل; ولن يبخس لهم حق.
والله - سبحانه - يشهد على اليهود أنهم - إذ يزكون أنفسهم ويدعون أن الله راض عنهم - يفترون عليه الكذب. ويشنع بفعلتهم هذه، ويوجه الأنظار إلى بشاعتها:
انظر. كيف يفترون على الله الكذب. وكفى به إثما مبينا! .
وما أرى أننا - الذين ندعي الإسلام لأننا نحمل أسماء المسلمين، ونعيش في أرض كان يسكنها المسلمون! بينما نحن لا نجعل الإسلام في شيء من منهجنا في الحياة.. ما أحسبنا ونحن ندعي الإسلام، فنشوه الإسلام بصورتنا وواقعنا ونؤدي ضده شهادة منفرة منه! ثم ونحن ندعي أن الله مختار لنا لأننا أمة
محمد - صلى الله عليه وسلم - بينما دين
محمد ومنهجه مطرود من واقع حياتنا طردا.. ما أحسبنا إلا في مثل هذا الموضع، الذي يعجب الله - سبحانه - منه رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويدمغ أصحابه بافتراء الكذب على الله، وارتكاب هذا الإثم المبين! والعياذ بالله!
إن
دين الله منهج حياة. وطاعة الله هي تحكيم هذا المنهج في الحياة . والقرب من الله لا يكون إلا بطاعته.. فلننظر أين نحن من الله ودينه ومنهجه.. ثم لننظر أين نحن من حال هؤلاء اليهود ، الذين يعجب الله من حالهم، ويدمغهم بإثم الافتراء عليه في تزكيتهم لأنفسهم! فالقاعدة هي القاعدة. والحال هي الحال. وليس لأحد عند الله نسب ولا صهر ولا محاباة!!!