وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من
المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها.. هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه، ولا فصل، ولا وقفة تنبئ بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى..
ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها:
وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا: هذه من عندك! قل: كل من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك. وأرسلناك للناس رسولا. وكفى بالله شهيدا من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ..
إن الذين يقولون هذا القول، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله، وما يصيبهم من الضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل فيهم وجوه:
الوجه الأول: أنهم يتطيرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيظنونه - حاشاه - شؤما عليهم. يأتيهم السوء من قبله. فإن أجدبت السنة، ولم تنسل الماشية، أو إذا أصيبوا في موقعة; تطيروا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله!
الوجه الثاني: أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها. وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلا من أن يقولوا: إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر! ويقولون: إن الخير يأتيهم من الله، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن أوامره. وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر!
والوجه الثالث: هو سوء التصور فعلا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة، وعلاقته بمشيئة الله.
[ ص: 718 ] وطبيعة أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم; وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى..
وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلا لأن يوسم به ذلك الفريق من
المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية. ويقولون:
ربنا لم كتبت علينا القتال؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب! .. غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى.. تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها. وهذا الوجه الثالث منها..
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات، هي جانب من قضية كبيرة.. القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم "قضية القضاء والقدر " أو "الجبر والاختيار" .. وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس; ثم في الرد عليهم، وتصحيح تصورهم. والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض..
فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم:
وإن تصبهم حسنة يقولوا: هذه من عند الله. وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك. قل: كل من عند الله. فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟ ..
إن
الله هو الفاعل الأول، والفاعل الواحد، لكل ما يقع في الكون، وما يقع للناس، وما يقع من الناس. فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا. ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر. فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة، وإيقاعها بهم، للرسول - صلى الله عليه وسلم وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع.
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير; بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير. ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره. لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشئ الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع. وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملا من أعمال القدرة الإلهية.
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلا، ووجوده أصلا، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله. لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله.
وفي الحالتين يكون وجود الحدث وتحققه من عند الله.. وهذا ما تقرره الآية الأولى..
أما الآية الثانية:
ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ...
فإنها تقرر حقيقة أخرى. ليست داخلة ولا متداخلة مع مجال الحقيقة الأولى.. إنها في واد آخر.. والنظرة فيها من زاوية أخرى:
إن الله - سبحانه - قد سن منهجا، وشرع طريقا، ودل على الخير، وحذر من الشر.. فحين يتبع الإنسان هذا المنهج، ويسير في هذا الطريق، ويحاول الخير، ويحذر الشر.. فإن الله يعينه على الهدى كما قال:
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا .. ويظفر الإنسان بالحسنة.. ولا يهم أن تكون من الظواهر التي يحسبها الناس من الخارج كسبا.. إنما هي الحسنة فعلا في ميزان الله تعالى.. وتكون من عند الله. لأن الله هو الذي
[ ص: 719 ] سن المنهج وشرع الطريق ودل على الخير وحذر من الشر.. وحين لا يتبع الإنسان منهج الله الذي سنه، ولا يسلك طريقه الذي شرعه، ولا يحاول الخير الذي دله عليه، ولا يحذر الشر الذي حذره منه.. حينئذ تصيبه السيئة. السيئة الحقيقية. سواء في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا.. ويكون هذا من عند نفسه. لأنه هو الذي لم يتبع منهج الله وطريقه.. وهذا معنى غير المعنى الأول، ومجال غير المجال الأول.. كما هو واضح فيما نحسب..
ولا يغير هذا من الحقيقة الأولى شيئا. وهي أن تحقق الحسنة، وتحقق السيئة ووقوعهما لا يتم إلا بقدرة الله وقدره. لأنه المنشئ لكل ما ينشأ. المحدث لكل ما يحدث. الخالق لكل ما يكون.. أيا كانت ملابسة إرادة الناس وعملهم في هذا الذي يحدث، وهذا الذي يكون .