ولكن
هناك طائفة أخرى، لا يتسامح معها الإسلام هذا التسامح. لأنها طائفة منافقة شريرة كالطائفة الأولى. وليست مرتبطة بميثاق ولا متصلة بقوم لهم ميثاق. فالإسلام إزاءها إذن طليق. يأخذها بما أخذ به طائفة المنافقين الأولى:
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا ..
حكى
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن nindex.php?page=showalam&ids=16879مجاهد ، أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء; ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا، وهاهنا. فأمر بقتلهم - إن لم يعتزلوا ويصلحوا - ولهذا قال تعالى: فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم (المهادنة والصلح) ويكفوا أيديهم (أي: عن القتال) فخذوهم (أسراء) واقتلوهم حيث ثقفتموهم (أي حيث وجدتموهم) وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا .
وهكذا نرى صفحة من حسم الإسلام وجديته، إلى جانب سماحته وتغاضيه.. هذه في موضعها، وتلك في موضعها. وطبيعة الموقف، وحقيقة الواقعة، هي التي تحدد هذه وتلك..
ورؤية هاتين الصفحتين - على هذا النحو - كفيلة بأن تنشئ التوازن في شعور المسلم; كما تنشئ التوازن في النظام الإسلامي - السمة الأساسية الأصيلة - فأما حين يجيء المتشددون فيأخذون الأمر كله عنفا وحماسة وشدة واندفاعا فليس هذا هو الإسلام! وأما حين يجيء المتميعون المترققون المعتذرون عن الجهاد في الإسلام، كأن الإسلام في قفص الاتهام وهم يترافعون عن المتهم الفاتك الخطير! فيجعلون الأمر كله سماحة وسلما وإغضاء وعفوا; ومجرد دفاع عن الوطن الإسلامي وعن جماعة المسلمين، وليس دفعا عن حرية الدعوة وإبلاغها لكل زاوية في الأرض بلا عقبة. وليس تأمينا لأي فرد في كل زاوية من زوايا الأرض يريد أن يختار الإسلام عقيدة. وليس سيادة لنظام فاضل وقانون فاضل يأمن الناس كلهم في ظله، من اختار عقيدته ومن لم يخترها سواء.. فأما حينئذ فليس هذا هو الإسلام.
[ ص: 735 ] وفي هذه الطائفة من أحكام المعاملات الدولية بلاغ وبيان..
ذلك في علاقات المسلمين مع المعسكرات الأخرى. فأما في علاقات المسلمين بعضهم ببعض، مهما اختلفت الديار - وفي ذلك الوقت كما في كل وقت كان هناك مسلمون في شتى الديار - فلا قتل ولا قتال.. لا قتل إلا في حد أو قصاص.. فإنه لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من وشيجة العقيدة; ومن ثم لا يقتل المسلم المسلم أبدا. وقد ربطت بينهما هذه الرابطة الوثيقة. اللهم إلا أن يكون ذلك خطأ.. وللقتل الخطأ توضع التشريعات والأحكام. فأما القتل العمد فلا كفارة له. لأنه وراء الحسبان! ووراء حدود الإسلام!
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ. ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا - فإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن - فتحرير رقبة مؤمنة. وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. توبة من الله. وكان الله عليما حكيما ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما ..
وهذه الأحكام تتناول أربع حالات: ثلاث منها من حالات القتل الخطأ - وهو الأمر المحتمل وقوعه بين المسلمين في دار واحدة دار الإسلام - أو في ديار مختلفة بين شتى الأقوام، والحالة الرابعة حالة القتل العمد . وهي التي يستبعد السياق القرآني وقوعها ابتداء. فليس من شأنها أن تقع. إذ ليس في هذه الحياة الدنيا كلها ما يساوي دم مسلم يريقه مسلم عمدا. وليس في ملابسات هذه الحياة الدنيا كلها ما من شأنه أن يوهن من علاقة المسلم بالمسلم إلى حد أن يقتله عمدا. وهذه العلاقة التي أنشأها الإسلام بين المسلم والمسلم من المتانة والعمق والضخامة والغلاوة والإعزاز بحيث لا يفترض الإسلام أن تخدش هذا الخدش الخطير أبدا. ومن ثم يبدأ حديثه عن أحكام القتل الخطأ:
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ..
فهذا هو الاحتمال الوحيد في الحس الإسلامي.. وهو الاحتمال الحقيقي في الواقع.. فإن وجود مسلم إلى جوار مسلم مسألة كبيرة. كبيرة جدا. ونعمة عظيمة. عظيمة جدا. ومن العسير تصور أن يقدم مسلم على إزالة هذه النعمة عن نفسه والإقدام على هذه الكبيرة عن عمد وقصد.. إن هذا العنصر.. المسلم.. عنصر عزيز في هذه الأرض.. وأشد الناس شعورا بإعزاز هذا العنصر هو المسلم مثله.. فمن العسير أن يقدم على إعدامه بقتله.. وهذا أمر يعرفه أصحابه. يعرفونه في نفوسهم ومشاعرهم. وقد علمهم الله إياه بهذه العقيدة. وبهذه الوشيجة. وبهذه القرابة التي تجمعهم في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ترتقي فتجمعهم في الله سبحانه الذي ألف بين قلوبهم. ذلك التأليف الرباني العجيب.
فأما إذا وقع القتل خطأ فهناك تلك الحالات الثلاث، التي يبين السياق أحكامها هنا:
الحالة الأولى:
أن يقع القتل على مؤمن أهله مؤمنون في دار الإسلام. ويجب في هذه الحالة تحرير رقبة مؤمنة، ودية تسلم إلى أهله.. فأما تحرير الرقبة المؤمنة، فهو تعويض للمجتمع المسلم عن قتل نفس مؤمنة باستحياء نفس مؤمنة. وكذلك هو تحرير الرقاب في حس الإسلام. وأما الدية فتسكين لثائرة النفوس، وشراء لخواطر المفجوعين، وتعويض لهم عن بعض ما فقدوا من نفع المقتول.. ومع هذا يلوح الإسلام لأهل القتيل بالعفو
[ ص: 736 ] - إذا اطمأنت نفوسهم إليه - لأنه أقرب إلى جو التعاطف والتسامح في المجتمع المسلم.
ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله - إلا أن يصدقوا ..
والحالة الثانية: أن يقع القتل على مؤمن وأهله محاربون للإسلام في دار الحرب.. وفي هذه الحالة يجب تحرير رقبة مؤمنة لتعويض النفس المؤمنة التي قتلت، وفقدها الإسلام. ولكن لا يجوز أداء دية لقومه المحاربين، يستعينون بها على قتال المسلمين! ولا مكان هنا لاسترضاء أهل القتيل وكسب مودتهم، فهم محاربون، وهم عدو للمسلمين.
والحالة الثالثة:
أن يقع القتل على مؤمن قومه معاهدون - عهد هدنة أو عهد ذمة - ولم ينص على كون المقتول مؤمنا في هذه الحالة. مما جعل بعض المفسرين والفقهاء يرى النص على إطلاقه. ويرى الحكم بتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله - المعاهدين - ولو لم يكن مؤمنا. لأن عهدهم مع المؤمنين يجعل دماءهم مصونة كدماء المسلمين.
ولكن الذي يظهر لنا أن الكلام ابتداء منصب على قتل المؤمن.
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ..
ثم بيان للحالات المتنوعة التي يكون فيها القتيل مؤمنا. وإذا كان قد نص في الحالة الثانية فقال:
فإن كان من قوم عدو لكم - وهو مؤمن فقد كان هذا الاحتراز مرة أخرى بسبب ملابسة أنه من قوم عدو. ويؤيد هذا الفهم النص على تحرير رقبة مؤمنة في هذه الحالة الثالثة. مما يوحي بأن القتيل مؤمن فأعتقت رقبة مؤمنة تعويضا عنه. وإلا لكفى عتق رقبة إطلاقا دون شرط الإيمان..
وقد
ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى بعض القتلى من المعاهدين: ولكن لم يرد عتق رقاب مؤمنة بعددهم . مما يدل على أن الواجب في هذه الحالة هو الدية. وأن هذا ثبت بعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بهذه الآية. وأن الحالات التي تتناولها هذه الآية كلها هي حالات وقوع القتل على مؤمن. سواء كان من قوم مؤمنين في دار الإسلام، أو من قوم محاربين عدو للمسلمين في دار الحرب، أو من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.. ميثاق هدنة أو ذمة.. وهذا هو الأظهر في السياق ذلك القتل الخطأ .
فأما
القتل العمد، فهو الكبيرة التي لا ترتكب مع إيمان والتي لا تكفر عنها دية ولا عتق رقبة وإنما يوكل جزاؤها إلى عذاب الله:
ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه. وأعد له عذابا عظيما ..
إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم. إنها تنكر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسها.
ومن ثم قرنت بالشرك في مواضع كثيرة واتجه بعضهم - ومنهم
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - إلى أنه لا توبة منها.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء .. فرجا للقاتل التائب المغفرة.. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة. ولكنهم لا يفكرون في قتلهم. لا يفكرون مرة واحدة; ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجدا ولذعا ومرارة. بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقا واحدا من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.