بعدئذ يمضي
يعدد آلاء الله عليهم، وكيف استقبلوا هذه الآلاء، وكيف جحدوا وكفروا وحادوا عن الطريق. وفي مقدمة هذه النعم كانت نجاتهم من آل
فرعون ومن العذاب الأليم:
وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب، يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم. وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ..
إنه يعيد على خيالهم ويستحيي في مشاعرهم صورة الكرب الذي كانوا فيه - باعتبار أنهم أبناء هذا الأصل البعيد - ويرسم أمامهم مشهد النجاة كما رسم أمامهم مشاهد العذاب.
يقول لهم: واذكروا إذ نجيناكم من آل
فرعون حالة ما كانوا يديمون عذابكم، "من سام الماشية أي: جعلها سائمة ترعى دائما" وكأن العذاب كان هو الغذاء الدائم الذي يطعمونهم إياه!! ثم يذكر لونا من هذا العذاب.
هو تذبيح الذكور واستيحاء الإناث. كي يضعف ساعد بني إسرائيل وتثقل تبعاتهم!.
وقبل أن يعرض مشهد النجاة يعقب بأن ذلك التعذيب كان فيه بلاء من ربهم عظيم. ليلقي في حسهم - وحس كل من يصادف شدة - أن إصابة العباد بالشدة هي امتحان وبلاء ، واختبار وفتنة. وأن الذي يستيقظ لهذه الحقيقة يفيد من الشدة، ويعتبر بالبلاء، ويكسب من ورائهما حين يستيقظ. والألم لا يذهب ضياعا إذا أدرك صاحبه أنه يمر بفترة امتحان لها ما بعدها إن أحسن الانتفاع بها. والألم يهون على النفس حين تعيش بهذا التصور وحين تدخر ما في التجربة المؤلمة من زاد للدنيا بالخبرة والمعرفة والصبر والاحتمال، ومن زاد للآخرة باحتسابها عند الله، وبالتضرع لله وبانتظار الفرج من عنده وعدم اليأس من رحمته.. ومن ثم هذا التعقيب الموحى:
وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ..
[ ص: 71 ] فإذا فرغ من التعقيب جاء بمشهد النجاة بعد مشاهد العذاب..
وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون ..
وقد وردت تفصيلات هذه النجاة في السور المكية التي نزلت من قبل. أما هنا فهو مجرد التذكير لقوم يعرفون القصة. سواء من القرآن المكي، أو من كتبهم وأقاصيصهم المحفوظة. إنما يذكرهم بها في صورة مشهد، ليستعيدوا تصورها، ويتأثروا بهذا التصور، وكأنهم هم الذين كانوا ينظرون إلى فرق البحر، ونجاة بني إسرائيل بقيادة
موسى - عليه السلام - على مشهد منهم ومرأى! وخاصية الاستحياء هذه من أبرز خصائص التعبير القرآني العجيب .