والآن نواجه نصوص الدرس بالتفصيل:
[ ص: 754 ] إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق، لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله. وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - وكان الله بما يعملون محيطا ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا، فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلا؟ .
إننا نحس في التعبير صرامة، يفوح منها الغضب للحق، والغيرة على العدل; وتشيع في جو الآيات وتفيض منها:
وأول ما يبدو هذا في تذكير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنزيل الكتاب إليه بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله. وإتباع هذا التذكير بالنهي عن أن يكون خصيما للخائنين، يدافع عنهم ويجادل. وتوجيهه لاستغفار الله - سبحانه - عن هذه المجادلة.
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله. ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما ..
ثم تكرار هذا النهي; ووصف هؤلاء الخائنين، الذين جادل عنهم - صلى الله عليه وسلم - بأنهم يختانون أنفسهم. وتعليل ذلك بأن الله
لا يحب من كان خوانا أثيما :
ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم. إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما .
وهم خانوا غيرهم في الظاهر. ولكنهم في الحقيقة خانوا أنفسهم. فقد خانوا الجماعة ومنهجها، ومبادئها التي تميزها وتفردها. وخانوا الأمانة الملقاة على الجماعة كلها، وهم منها.. ثم هم يختانون أنفسهم في صورة أخرى. صورة تعريض أنفسهم للإثم الذي يجازون عليه شر الجزاء. حيث يكرههم الله، ويعاقبهم بما أثموا. وهي خيانة للنفس من غير شك.. وصورة ثالثة لخيانتهم لأنفسهم، هي تلويث هذه الأنفس وتدنيسها بالمؤامرة والكذب والخيانة.
إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما
.. وهذه عقوبة أكبر من كل عقوبة.. وهي تلقي إلى جانبها إيحاء آخر. فالذين لا يحبهم الله لا يجوز أن يجادل عنهم أحد، ولا أن يحامي عنهم أحد. وقد كرههم الله للإثم والخيانة!
ويعقب الوصف بالإثم والخيانة تصوير منفر لسلوك هؤلاء الخونة الآثمين:
يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله - وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول ...
وهي صورة زرية داعية إلى الاحتقار والسخرية. زرية بما فيها من ضعف والتواء، وهم يبيتون ما يبيتون من الكيد والمؤامرة والخيانة; ويستخفون بها عن الناس. والناس لا يملكون لهم نفعا ولا ضرا. بينما الذي يملك النفع والضر معهم وهم يبيتون ما يبيتون; مطلع عليهم وهم يخفون نياتهم ويستخفون. وهم يزورون من القول ما لا يرضاه! فأي موقف يدعو إلى الزراية والاستهزاء أكثر من هذا الموقف؟
وكان الله بما يعملون محيطا ...
إجمالا وإطلاقا.. فأين يذهبون بما يبيتون. والله معهم إذ يبيتون. والله بكل شيء محيط وهم تحت عينه وفي قبضته؟
وتستمر الحملة التي يفوح منها الغضب; على كل من جادل عن الخائنين:
[ ص: 755 ] ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا. فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة؟ أم من يكون عليهم وكيلا؟
..
واللهم لا مجادل عنهم يوم القيامة ولا وكيل. فما جدوى الجدال عنهم في الدنيا وهي لا تدفع عنهم ذلك اليوم الثقيل؟
وبعد هذه الحملة الغاضبة على الخونة الأثمة، والعتاب الشديد للمنافحين عنهم والمجادلين. يجيء تقرير القواعد العامة لهذه الفعلة وآثارها. وللحساب عليها والجزاء. ولقاعدة الجزاء عامة. القاعدة العادلة التي يعامل بها الله العباد. ويطلب إليهم أن يحاولوا محاكاتها في تعاملهم فيما بينهم، وأن يتخلقوا بخلق الله - خلق العدل - فيها:
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه. وكان الله عليما حكيما ومن يكسب خطيئة أو إثما، ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
..
إنها آيات ثلاث تقرر المبادئ الكلية التي يعامل بها الله عباده; والتي يملك العباد أن يعاملوا بعضهم بعضا بها، ويعاملوا الله على أساسها فلا يصيبهم السوء.
الآية الأولى تفتح باب التوبة على مصراعيه، وباب المغفرة على سعته; وتطمع كل مذنب تائب في العفو والقبول:
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه، ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ...
إنه - سبحانه - موجود للمغفرة والرحمة حيثما قصده مستغفر منيب.. والذي يعمل السوء يظلم غيره. ويظلم نفسه. وقد يظلم نفسه وحدها إذا عمل السيئة التي لا تتعدى شخصه.. وعلى أية حال فالغفور الرحيم يستقبل المستغفرين في كل حين; ويغفر لهم ويرحمهم متى جاءوه تائبين. هكذا بلا قيد ولا شرط ولا حجاب ولا بواب! حيثما جاءوا تائبين مستغفرين وجدوا الله غفورا رحيما..
والآية الثانية تقرر فردية التبعة . وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة. الخوف من عمله وكسبه. والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره.
ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه. وكان الله عليما حكيما
..
ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة . كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها.. وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب. مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.. توازن عجيب، في هذا التصور الفريد. هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته ، التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق; المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان.
والآية الثالثة تقرر تبعة
من يكسب الخطيئة ثم يرمي بها البريء .. وهي الحالة المنطبقة على حالة العصابة التي يدور عليها الكلام:
ومن يكسب خطيئة أو إثما، ثم يرم به بريئا، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
..
البهتان في رميه البريء. والإثم في ارتكابه الذنب الذي رمى به البريء.. وقد احتملهما معه. وكأنما
[ ص: 756 ] هما حمل يحمل. على طريقة التجسيم التي تبرز المعنى وتؤكده في التعبير القرآني المصور .
وبهذه القواعد الثلاث يرسم القرآن
ميزان العدالة الذي يحاسب كل فرد على ما اجترح. ولا يدع المجرم يمضي ناجيا إذا ألقى جرمه على سواه.. وفي الوقت ذاته يفتح باب التوبة والمغفرة على مصراعيه; ويضرب موعدا مع الله - سبحانه - في كل لحظة للتائبين المستغفرين، الذين يطرقون الأبواب في كل حين. بل يلجونها بلا استئذان فيجدون الرحمة والغفران!
وأخيرا يمن الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن عصمه من الانسياق وراء المتآمرين المبيتين; فأطلعه على مؤامراتهم التي يستخفون بها من الناس ولا يستخفون بها من الله - وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول - ثم يمتن عليه المنة الكبرى في إنزال الكتاب والحكمة وتعليمه ما لم يكن يعلم.. وهي المنة على البشرية كلها، ممثلة ابتداء في شخص أكرمها على الله وأقربها لله:
ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك. وما يضلون إلا أنفسهم. وما يضرونك من شيء. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة. وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيما .
إن هذه المحاولة ليست إلا واحدة من محاولات كثيرة، شتى الألوان والأنواع; مما بذله أعداء هذا الرسول الكريم ليضلوه عن الحق والعدل والصواب. ولكن الله - سبحانه - كان يتولاه بفضله ورحمته في كل مرة. وكان الكائدون المتآمرون هم الذين يضلون ويقعون في الضلالة.. وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حافلة بتلك المحاولات; ونجاته وهدايته; وضلال المتآمرين وخيبتهم.
والله - سبحانه - يمتن عليه بفضله ورحمته هذه; ويطمئنه في الوقت ذاته أنهم لا يضرونه شيئا. بفضل من الله ورحمة.
وبمناسبة المنة في حفظه من هذه المؤامرة الأخيرة; وصيانة أحكامه من أن تتعرض لظلم بريء وتبرئة جارم، وكشف الحقيقة له وتعريفه بالمؤامرة.. تجيء المنة الكبرى.. منة الرسالة:
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيما .
وهي منة الله على "الإنسان" في هذه الأرض. المنة التي ولد الإنسان معها ميلادا جديدا. ونشأ بها "الإنسان" كما نشأ أول مرة بنفخة الروح الأولى..
المنة التي التقطت البشرية من سفح الجاهلية، لترقى بها في الطريق الصاعد، إلى القمة السامقة. عن طريق المنهج الرباني الفريد العجيب..
المنة التي لا يعرف قدرها إلا الذي عرف الإسلام وعرف الجاهلية - جاهلية الغابر والحاضر - وذاق الإسلام وذاق الجاهلية..
وإذا كانت منة يذكر الله بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلأنه هو أول من عرفها وذاقها. وأكبر من عرفها وذاقها. وأعرف من عرفها وذاقها..
وعلمك ما لم تكن تعلم. وكان فضل الله عليك عظيما .