ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء.. إن
ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني. إنه يرجع إلى أصل ثابت، وسنة لا تتخلف، وقانون لا يحابي. قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة، وتخالف من أجله السنة، ويعطل لحسابه القانون.. إن صاحب السوء مجزى بالسوء وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة. ولا محاباة في هذا ولا مماراة:
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة، ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا، واتخذ الله إبراهيم خليلا .
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون:
نحن أبناء الله وأحباؤه .. وكانوا يقولون:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة .. وكان اليهود ولا يزالون يقولون: إنهم شعب الله المختار!
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس. وأن الله متجاوز عما يقع منهم.. بما أنهم المسلمون..
فجاء هذا النص يرد هؤلاء وهؤلاء إلى العمل، والعمل وحده. ويرد الناس كلهم إلى ميزان واحد. هو إسلام الوجه لله - مع الإحسان - واتباع ملة
إبراهيم وهي الإسلام.
إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا..
فأحسن الدين هو هذا الإسلام - ملة
إبراهيم - وأحسن العمل هو "الإحسان" .. والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وقد كتب الإحسان في كل شيء حتى في إراحة الذبيحة عند ذبحها، وحد الشفرة، حتى لا تعذب وهي تذبح!
وفي النص تلك التسوية بين شقي النفس الواحدة، في موقفهما من العمل والجزاء; كما أن فيه
شرط الإيمان لقبول العمل، وهو الإيمان بالله:
ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى - وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ..
وهو نص صريح على وحدة القاعدة في معاملة شقي النفس الواحدة من ذكر أو أنثى. كما هو نص صريح في اشتراط الإيمان لقبول العمل. وأنه لا قيمة عند الله لعمل لا يصدر عن الإيمان. ولا يصاحبه الإيمان. وذلك طبيعي ومنطقي لأن الإيمان بالله هو الذي يجعل العمل الصالح يصدر عن تصور معين وقصد معلوم; كما يجعله حركة طبيعية مطردة، لا استجابة لهوى شخصي، ولا فلتة عابرة لا تقوم على قاعدة..
وهذه الألفاظ الصريحة تخالف ما ذهب إليه الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده رحمه الله في تفسير جزء "عم" عند قوله تعالى:
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره .. إذ رأى النص لعمومه هذا يشمل المسلم وغير المسلم. بينما النصوص الصريحة الأخرى تنفي هذا تماما. وكذلك ما رآه الأستاذ
الشيخ المراغي - رحمه الله - وقد أشرنا إلى هذه القصة في جزء عم (الجزء الثلاثين من الظلال) .
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم:
[ ص: 763 ] من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ..
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية; ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا. مهما صلحت، ومهما عملت من حسنات.
كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم.. لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها; ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها; ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه. ومن ثم ارتجفت نفوسهم، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به. ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها، وهذه كانت ميزتهم. أن يحسوا الآخرة على هذا النحو، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها. لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد!
قال الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد : حدثنا
عبد الله بن نمير ، حدثنا
إسماعيل ، عن
أبي بكر بن أبي زهير ، قال: أخبرت أن
nindex.php?page=hadith&LINKID=680910 nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر - رضي الله عنه - قال: يا رسول الله، كيف الفلاح بعد هذه الآية؟ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءا يجز به .. فكل سوء عملناه جزينا به.. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
"غفر الله لك يا nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر . ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟" قال بلى! قال: "فهو مما تجزون به .. ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=11797الحاكم عن طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري عن
إسماعيل .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=13507أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ، يحدث عن
nindex.php?page=hadith&LINKID=665335 nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق . قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: من يعمل سوءا يجز به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر ، ألا أقرئك آية نزلت علي؟" قال: قلت يا رسول الله: فأقرأنيها.. فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري، حتى تمطيت لها! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مالك يا nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر ؟" فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وأينا لم يعمل السوء، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . "أما أنت يا nindex.php?page=showalam&ids=1أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب. وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة . (وكذا رواه
nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي ) .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=11970ابن أبي حاتم - بإسناده -
nindex.php?page=hadith&LINKID=855855عن nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة قالت: قلت: يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن. فقال: "ما هي يا nindex.php?page=showalam&ids=25عائشة ؟" قلت: من يعمل سوءا يجز به فقال. "ما يصيب العبد المؤمن، حتى النكبة ينكبها .
(ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ) .
وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة - بإسناده - عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
nindex.php?page=hadith&LINKID=665334لما نزلت: من يعمل سوءا يجز به شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة. حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها ..
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء. ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى. ولقد هزت هذه الآية كيانهم، ورجفت لها نفوسهم، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا. ويعرفون صدق وعد الله حقا. ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا.