وبعد هذا الاستدراك والتعقيب ، يعود السياق إلى تعداد الأسباب التي استحقوا عليها ما استحقوا من
تحريم بعض الطيبات عليهم في الدنيا ، ومن إعداد النار وتهيئتها لهم ، لتكون في انتظارهم في الآخرة !
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
ويكرر صفة الكفر كلما ذكر إحدى منكراتهم . فقد ذكرها عند قتلهم الأنبياء بغير حق - وما يقتل نبي بحق أبدا فهي حال لتقرير الواقع - وذكرها هنا بمناسبة قولهم على
مريم بهتانا عظيما . وقد قالوا على
مريم الطاهرة ذلك المنكر الذي لا يقوله إلا اليهود ! فرموها بالزنا مع
يوسف النجار - لعنة الله عليهم ! - ثم تبجحوا بأنهم قتلوا
المسيح وصلبوه ، وهم يتهكمون بدعواه الرسالة فيقولون : قتلنا
المسيح عيسى بن مريم رسول الله !
وحين يصل السياق إلى هذه الدعوى منهم يقف كذلك للرد عليها ، وتقرير الحق فيها :
وما قتلوه وما صلبوه، ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزا حكيما . .
إن قضية قتل
عيسى عليه السلام وصلبه، قضية يخبط فيها اليهود - كما يخبط فيها النصارى بالظنون - فاليهود يقولون : إنهم قتلوه ويسخرون من قوله : إنه رسول الله ، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية ! والنصارى يقولون : إنه صلب ودفن ، ولكنه قام بعد ثلاثة أيام. و"التاريخ" يسكت عن مولد
المسيح ونهايته كأن لم تكن له في حساب !
[ ص: 802 ] وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين . . فلقد تتابعت الأحداث سراعا ; وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين . . إلا ما يقصه رب العالمين . .
والأناجيل الأربعة التي تروي قصة القبض على
المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته . . كلها كتبت بعد فترة من عهد
المسيح ; كانت كلها اضطهادا لديانته ولتلاميذه يتعذر معه تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد . . وقد كتبت معها أناجيل كثيرة . ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد ; واعتبرت رسمية ، واعترف بها ; لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات !
ومن بين الأناجيل التي كتبت في فترة كتابة الأناجيل الكثيرة : إنجيل
برنابا . وهو يخالف الأناجيل الأربعة المعتمدة ، في قصة القتل والصلب ، فيقول : "ولما دنت الجنود مع
يهوذا ، من المحل الذي كان فيه يسوع ، سمع يسوع دنو جم غفير . فلذلك انسحب إلى البيت خائفا . وكان الأحد عشر نياما . فلما رأى الخطر على عبده ، أمر
جبريل وميخائيل ورفائيل وأوريل ، سفراءه . . أن يأخذوا يسوع من العالم . فجاء الملائكة الأطهار ، وأخذوا يسوع من النافذة المشرفة على الجنوب ، فحملوه ، ووضعوه في السماء الثالثة ، في صحبة الملائكة التي تسبح إلى الأبد . . ودخل
يهوذا بعنف إلى الغرفة التي أصعد منها يسوع . وكان التلاميذ كلهم نياما . فأتى الله العجيب بأمر عجيب فتغير
يهوذا في النطق وفي الوجه فصار شبيها بيسوع . حتى أننا اعتقدنا أنه يسوع . أما هو فبعد أن أيقظنا أخذ يفتش لينظر أين كان المعلم . لذلك تعجبنا وأجبنا : أنت يا سيدي معلمنا . أنسيتنا الآن ؟ . . . إلخ" .
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرا يقينا عن تلك الواقعة - التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر - ولا يجد المختلفون فيها سندا يرجح رواية على رواية .
وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن .
أما القرآن فيقرر قراره الفصل :
وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم .
وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما . .
ولا يدلي القرآن بتفصيل في هذا الرفع أكان بالجسد والروح في حالة الحياة ؟ أم كان بالروح بعد الوفاة ؟ ومتى كانت هذه الوفاة وأين . وهم ما قتلوه وما صلبوه وإنما وقع القتل والصلب على من شبه لهم سواه .
لا يدلي القرآن بتفصيل آخر وراء تلك الحقيقة ; إلا ما ورد في السورة الأخرى من قوله تعالى
يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي . . وهذه كتلك لا تعطي تفصيلا عن الوفاة ولا عن طبيعة هذا التوفي وموعده . .
ونحن - على طريقتنا - في ظلال القرآن - لا نريد أن نخرج عن تلك الظلال ; ولا أن نضرب في أقاويل وأساطير ; ليس لدينا من دليل عليها ، وليس لنا إليها سبيل . .
ونعود من هذا الاستطراد ، مع عودة السياق القرآني إلى بقية هذا الاستدراك :
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا .
وقد اختلف السلف في مدلول هذه الآية ، باختلافهم في عائد الضمير في "موته" فقال جماعة : وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن
بعيسى - عليه السلام - قبل موته - أي
عيسى - وذلك على القول بنزوله قبيل
[ ص: 803 ] الساعة . . وقال جماعة وما من أهل الكتاب من أحد إلا يؤمن
بعيسى قبل موته . . أي : موت الكتابي وذلك على القول بأن الميت - وهو في سكرات الموت - يتبين له الحق ، حيث لا ينفعه أن يعلم !
ونحن أميل إلى هذا القول الثاني ; الذي ترشح له قراءة
nindex.php?page=showalam&ids=34أبي :
إلا ليؤمنن به قبل موته . . فهذه القراءة تشير إلى عائد الضمير ; وأنه أهل الكتاب . . وعلى هذا الوجه يكون المعنى : أن اليهود الذين كفروا
بعيسى - عليه السلام - وما زالوا على كفرهم به ، وقالوا : إنهم قتلوه وصلبوه ، ما من أحد منهم يدركه الموت ، حتى تكشف له الحقيقة عند حشرجة الروح ، فيرى أن
عيسى حق ، ورسالته حق ، فيؤمن به ، ولكن حين لا ينفعه إيمان . . ويوم القيامة يكون
عيسى عليهم شهيدا .