وفي نهاية المطاف نقف وقفة خاشعة أمام جلال الله وعظمته ; ممثلة في علمه ، وعدله ، ورعايته ، وفضله ، ورحمته وبره . . بهذا الكائن الإنساني الذي يجحد ويطغى . .
نقف أمام عظمة العلم بهذا الكائن ; وما أودعه من القوى والطاقات ; وما ركب في كينونته من استعدادات الهدى والضلال . وما رتبه على هذا العلم حين لم يكله إلى عقله وحده . . على عظمة هذه الأداة التي وهبها له ; وعلى كثرة ما في الأنفس والآفاق من دلائل الهدى وموجبات الإيمان . . فلقد علم الله أن هذه الأداة العظيمة تنوشها الشهوات والنزوات ; وأن الدلائل المبثوثة في تضاعيف الكون وأطواء النفس قد يحجبها الغرض والهوى ، ويحجبها الجهل والقصور . . ومن ثم لم يكل إلى العقل البشري تبعة الهدى والضلال - إلا بعد الرسالة والبيان - ولم يكل إليه بعد البيان والاهتداء وضع منهج الحياة ، إنما وكل إليه تطبيق منهج الحياة الذي يقرره له الله . . ثم ترك له ما وراء ذلك - وهو ملك عريض - يبدع فيه ما شاء ، ويغير فيه ما شاء ، ويركب فيه ما شاء ، ويحلل فيه ما شاء . منتفعا بتسخير الله لهذا الملك كله لهذا الإنسان وهو الذي يخطئ عقله ويصيب ، وتعثر قدمه وتستقيم على الطريق !
ونقف أمام عظمة العدل الذي يرتب للناس حجة على الله - سبحانه - لو لم يرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين . هذا مع احتشاد كتاب الكون المفتوح ، وكتاب النفس المكنون بالآيات الشواهد على الخالق ، ووحدانيته ، وتدبيره وتقديره ، وقدرته وعلمه . . ومع امتلاء الفطرة بالأشواق والهواتف إلى الاتصال ببارئها والإذعان له ، والتناسق والتجاوب والتجاذب بينها وبين دلائل وجود الخالق في الكون والنفس . . ومع هبة العقل الذي يملك أن يحصي الشواهد ويستنبط النتائج . . ولكن الله - سبحانه - بما يعلم من عوامل الضعف التي تطرأ على هذه القوى كلها ، فتعطلها ، أو تفسدها ، أو تطمسها ، أو تدخل في حكمها الخطأ والشطط ،
[ ص: 811 ] قد أعفى الناس من حجية الكون ، وحجية الفطرة ، وحجية العقل ، ما لم يرسل إليهم الرسل ليستنقذوا هذه الأجهزة كلها مما قد يرين عليها ، وليضبطوا بموازين الحق الإلهي الممثل في الرسالة ، هذه الأجهزة ، فتصح أحكامها حين تستقيم على ضوابط المنهج الإلهي . . وعندئذ فقط يلزمها الإقرار والطاعة والاتباع ; أو تسقط حجتها وتستحق العقاب . .
ونقف أمام
عظمة الرعاية والفضل والرحمة والبر بهذا المخلوق الذي يكرمه الله ويختاره ، على ما يعلم به من ضعف ونقص ; فيكل إليه هذا الملك العريض . . خلافة الأرض . . وهو بالقياس إليه ملك عريض ! وإن كان في ملك الله ذرة تمسكها يد الله فلا تضيع في ملكه الكبير !
ثم تشاء رعايته وفضله ورحمته وبره ، ألا تدعه لما أودع في كينونته من فطرة هادية ولكنها تطمس ; ومن عقل هاد ولكنه يضل ; بل يتفضل عليه ربه فيرسل إليه الرسل تترى . . وهو يكذب ويعاند ; ويشرد وينأى ; فلا يأخذه ربه بأخطائه وخطاياه ; ولا يحبس عنه بره وعطاياه ، ولا يحرمه هداه على أيدي رسله الهداة . . ثم لا يأخذه بالعقاب في الدنيا أو في الآخرة حتى تبلغه الرسل ; فيعرض ويكفر ، ويموت وهو كافر لا يتوب ولا ينيب . .
ومن عجب أن يأتي على هذا الإنسان زمان يزعم لنفسه أنه استغنى عن ربه . . استغنى عن رعايته وفضله ورحمته وبره . . استغنى عن هدايته ودينه ورسله . . استغنى بالأداة التي علم ربه أنها لا تغنيه - ما لم تقوم بمنهج الله - فلم يكتب عليه عقابا إلا بعد الرسالة والبيان . . فيتمثل لنا الطفل الذي يحس ببعض القوة في ساقيه فيروح يبعد عنه اليد التي تسنده ، ليتكفأ ويتعثر ! غير أن الطفل في هذا المثال أرشد وأطوع للفطرة . إذ أنه بمحاولة الاستقلال عن اليد التي تسنده يجيب داعي الفطرة في استحثاث طاقات كامنة في كيانه ; وإنماء قدرات ممكنة النماء ; وتدريب عضلات وأعصاب تنمو وتقوى بالتدريب . . أما إنسان اليوم الذي يبعد عنه يد الله ، ويتنكب هداه ، فإن كينونته - بكل ما يكمن فيها من قوى - يعلم الله أنها لا تشتمل على قوة مكنونة تملك الاستغناء عن يد الله وهداه . وقصارى ما في قواه أنها ترشد وتضبط وتستقيم برسالة الله . وتضل وتختل وتضطرب إذا هي استقلت بنفسها ، وتنكبت هداه !
وخطأ وضلال - إن لم يكن هو الخداع والتضليل - كل زعم يقول : إن العقول الكبيرة كانت حرية أن تبلغ بدون الرسالة ما بلغته بالرسالة . . فالعقل ينضبط - مع الرسالة - بمنهج النظر الصحيح ; فإذا أخطأ بعد ذلك في التطبيق كان خطؤه كخطأ الساعة التي تضبط ، ثم تغلبها عوامل الجو والمؤثرات ، وطبيعة معدنها الذي يتأثر بهذه المؤثرات ، لا كخطأ الساعة التي لم تضبط أصلا ، وتركت للفوضى والمصادفة ! وشتان شتان ! وآية أن ما يتم بالرسالة - عن طريق العقل نفسه - لا يمكن أن يتم بغيرها ; فلا يغني العقل البشري عنها . . إن تاريخ البشرية لم يسجل أن عقلا واحدا من العقول الكبيرة النادرة اهتدى إلى مثل ما اهتدت إليه العقول العادية المتوسطة بالرسالة . . لا في تصور اعتقادي ; ولا في خلق نفسي ، ولا في نظام حياة ، ولا في تشريع واحد لهذا النظام . .
إن عقول
أفلاطون وأرسطو من العقول الكبيرة قطعا . . بل إنهم ليقولون : إن عقل
أرسطو هو أكبر عقل عرفته البشرية - بعيدا عن رسالة الله وهداه - فإذا نحن راجعنا تصوره لإلهه - كما وصفه - رأينا المسافة الهائلة التي تفصله عن تصور المسلم العادي لإلهه مهتديا بهدى الرسالة .
[ ص: 812 ] وقد وصل
أخناتون - في
مصر القديمة - إلى عقيدة التوحيد - وحتى مع استبعاد تأثره في هذا بإشعاع عقيدة التوحيد في رسالة
إبراهيم ورسالة
يوسف - فإن الفجوات والأساطير التي في عقيدة
أخناتون تجعل المسافة بينها وبين توحيد المسلم العادي لإلهه بعيدة بعيدة .
وفي الخلق نجد في الفترة التي هيمن فيها الإسلام في صدر الإسلام نماذج للأوساط ممن رباهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تتطاول إليها أعناق الأفذاذ على مدار التاريخ ممن لم تخرجهم رسالة سماوية .
وفي المبادئ والنظم والتشريعات لا نجد أبدا ذلك التناسق والتوازن ، مع السمو والرفعة التي نجدها في نظام الإسلام ومبادئه وتشريعاته . ولا نجد أبدا ذلك المجتمع الذي أنشأه الإسلام يتكرر لا في زمانه ولا قبل زمانه ولا بعد زمانه في أرض أخرى ، بتوازنه وتناسقه ويسر حياته وتناغمها . .
إنه ليس المستوى الحضاري المادي هو الذي يكون عليه الحكم . فالحضارة المادية تنمو بنمو وسائلها التي ينشئها "العلم " الصاعد . . ولكن ميزان الحياة في فترة من الفترات هو التناسق والتوازن بين جميع أجزائها وأجهزتها وأوضاعها . . هو التوازن الذي ينشئ السعادة والطمأنينة ، والذي يطلق الطاقات الإنسانية كلها لتعمل دون كبت ودون مغالاة في جانب من جوانبها الكثيرة . . والفترة التي عاشت بالإسلام كاملا لم تبلغها البشرية - بعيدا عن الرسالة - في أي عصر . . والخلخلة وعدم الاتزان هو الطابع الدائم للحياة في غير ظل الإسلام ; مهما التمعت بعض الجوانب ; ومهما تضخمت بعض الجوانب . فإنما تلتمع لتنطفئ جوانب أخرى .
وإنما تتضخم على حساب الجوانب الأخرى . . والبشرية معها تتأرجح وتحتار وتشقى .