ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام :
حرمت عليكم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب، وأن تستقسموا بالأزلام.. ذلكم فسق.. اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون. اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا.. فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم .
والميتة والدم ولحم الخنزير، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات (ص 156 - ص 157 من الجزء الثاني من الظلال ) وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ; وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد ؟ !
وأما
ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ; وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به ; وما يسمى عليه بغير اسم الله (وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ) حرام ; لأنه ينقض الإيمان من أساسه ; ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية ; يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير .
وأما
المنخنقة (وهي التي تموت خنقا )
والموقوذة (وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت )
والمتردية (وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت )
والنطيحة (وهي التي تنطحها بهيمة فتموت )
وما أكل السبع (وهي الفريسة لأي من الوحش ) . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : (إلا ما ذكيتم ) فحكمها هو حكم الميتة . . إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . .
على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم "التذكية " ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ; فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا - أو يقتلها حتما - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أيا كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقه المختصة . .
وأما
ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في
الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام ، حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .
[ ص: 841 ] ويبقى
الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند
العرب ; فتقسم بواسطتها الجزور - أي : الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
. . .
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات ; ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . .
فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطي للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ; والتقوى الموكولة إلى الله . . فمن أقدم مضطرا ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب :
فإن الله غفور رحيم . .