ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ونمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد :
يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان - ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين . .
إن هذا السؤال من الذين آمنوا عما أحل لهم ; يصور حالة نفسية لتلك الجماعة المختارة ، التي سعدت بخطاب الله تعالى لها أول مرة ; ويشي بما خالج تلك النفوس من التحرج والتوقي من كل ما كان في الجاهلية ; خشية أن يكون الإسلام قد حرمه ; وبالحاجة إلى السؤال عن كل شيء للتثبت من أن المنهج الجديد يرتضيه ويقره .
والناظر في تاريخ هذه الفترة يلمس ذلك التغيير العميق الذي أحدثه الإسلام في النفس العربية . . لقد هزها هزا عنيفا نفض عنها كل رواسب الجاهلية . . لقد أشعر المسلمين - الذين التقطهم من سفح الجاهلية ليرتفع بهم إلى القمة السامقة - أنهم يولدون من جديد ; وينشؤون من جديد . كما جعلهم يحسون إحساسا عميقا بضخامة النقلة ، وعظمة الوثبة ، وجلال المرتقى ، وجزالة النعمة . فأصبح همهم أن يتكيفوا وفق هذا المنهج الرباني الذي لمسوا بركتة عليهم . وأن يحذروا عن مخالفته . . وكان التحرج والتوجس من كل ما ألفوه في الجاهلية هو ثمرة هذا الشعور العميق ، وثمرة تلك الهزة العنيفة .
لذلك راحوا يسألون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد ما سمعوا آيات التحريم :
ماذا أحل لهم؟
.
ليكونوا على يقين من حله قبل أن يقربوه .
وجاءهم الجواب :
قل: أحل لكم الطيبات ... . .
[ ص: 847 ] وهو جواب يستحق التأمل . . إنه يلقي في حسهم هذه الحقيقة : إنهم لم يحرموا طيبا ، ولم يمنعوا عن طيب ; وإن كل الطيبات لهم حلال ، فلم يحرم عليهم إلا الخبائث . . والواقع أن كل ما حرمه الله هو ما تستقذره الفطرة السليمة من الناحية الحسية . كالميتة والدم ولحم الخنزير . أو ينفر منه القلب المؤمن كالذي أهل لغير الله به أو ما ذبح على النصب ، أو كان الاستقسام فيه بالأزلام . وهو نوع من الميسر .
ويضيف إلى الطيبات - وهي عامة - نوعا منها يدل على طيبته تخصيصه بالذكر بعد التعميم ; وهو
ما تمسكه الجوارح المعلمة المدربة على الصيد كالصقر والبازي ، ومثلها كلاب الصيد ، أو الفهود والأسود . مما علمه أصحابه كيف يكلب الفريسة : أي يكبلها ويصطادها :
وما علمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله. فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله، إن الله سريع الحساب . .
وشرط الحل فيما تمسكه هذه الجوارح المكلبة المعلمة المدربة ، أن تمسك على صاحبها : أي أن تحتفظ بما تمسكه من الصيد ; فلا تأكل منه عند صيده ; إلا إذا غاب عنها صاحبها ، فجاعت . فإنها إن أكلت من الفريسة عند إمساكها لها ، لا تكون معلمة ; وتكون قد اصطادت لنفسها لا لصاحبها فلا يحل له صيدها . ولو تبقى منها معظم الصيد لم تأكله ; ولو جاءت به حيا ولكنها كانت أكلت منه ; فلا يذكى ولو ذبح ما كان حلالا . .
والله يذكر المؤمنين بنعمته عليهم في هذه الجوارح المكلبة ; فقد علموها مما علمهم الله . فالله هو الذي سخر لهم هذه الجوارح ; وأقدرهم على تعليمها ; وعلمهم هم كيف يعلمونها . . وهي لفتة قرآنية تصور أسلوب التربية القرآني ، وتشي بطبيعة المنهج الحكيم الذي لا يدع لحظة تمر ، ولا مناسبة تعرض ، حتى يوقظ في القلب البشري الإحساس بهذه الحقيقة الأولى : حقيقة أن الله هو الذي أعطى كل شيء . هو الذي خلق ، وهو الذي علم ، وهو الذي سخر ; وإليه يرجع الفضل كله ، في كل حركة وكل كسب وكل إمكان ، يصل إليه المخلوق . . فلا ينسى المؤمن لحظة ، أن من الله ، وإلى الله ، كل شيء في كيانه هو نفسه ; وفيما حوله من الأشياء والأحداث ; ولا يغفل المؤمن لحظة عن رؤية يد الله وفضله في كل عزمة نفس منه ، وكل هزة عصب ، وكل حركة جارحة . . ويكون بهذا كله "ربانيا " على الاعتبار الصحيح .
والله يعلم المؤمنين أن يذكروا اسم الله على الصيد الذي تمسك به الجوارح . ويكون الذكر عند إطلاق الجارح إذ أنه قد يقتل الصيد بنابه أو ظفره ; فيكون هذا كالذبح له ; واسم الله يذكر عند الذبح ، فهو يذكر كذلك عند إطلاق الجارح سواء .
ثم يردهم في نهاية الآية إلى تقوى الله ; ويخوفهم حسابه السريع . . فيربط أمر الحل والحرمة كله بهذا الشعور الذي هو المحور لكل نية وكل عمل في حياة المؤمن ; والذي يحول الحياة كلها صلة بالله ، وشعورا بجلاله ، ومراقبة له في السر والعلانية :
واتقوا الله إن الله سريع الحساب . .
ويستطرد في بيان ما أحل لهم من الطعام ويلحق به ما أحل لهم من النكاح :
اليوم أحل لكم الطيبات. وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم. وطعامكم حل لهم. والمحصنات من المؤمنات. والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم. إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان . .
وهكذا يبدأ ألوان المتاع الحلال مرة أخرى بقوله :
[ ص: 848 ] اليوم أحل لكم الطيبات . .
فيؤكد المعنى الذي أشرنا إليه ; ويربط بينه وبين الألوان الجديدة من المتاع . فهي من الطيبات .
وهنا نطلع على صفحة من صفحات السماحة الإسلامية ; في التعامل مع غير المسلمين ، ممن يعيشون في المجتمع الإسلامي "في دار الإسلام " ، أو تربطهم به روابط الذمة والعهد ، من أهل الكتاب . .
إن الإسلام لا يكتفي بأن يترك لهم حريتهم الدينية ; ثم يعتزلهم ، فيصبحوا في المجتمع الإسلامي مجفوين معزولين - أو منبوذين - إنما يشملهم بجو من المشاركة الاجتماعية ، والمودة ، والمجاملة والخلطة . فيجعل طعامهم حلا للمسلمين وطعام المسلمين حلا لهم كذلك . ليتم التزاور والتضايف والمؤاكلة والمشاربة ، وليظل المجتمع كله في ظل المودة والسماحة . . وكذلك يجعل العفيفات من نسائهم - وهن المحصنات بمعنى العفيفات الحرائر - طيبات للمسلمين ، ويقرن ذكرهن بذكر الحرائر العفيفات من المسلمات . وهي سماحة لم يشعر بها إلا أتباع الإسلام من بين سائر أتباع الديانات والنحل . فإن الكاثوليكي المسيحي ليتحرج من نكاح الأرثوذكسية ، أو البروتستانتية ، أو المارونية المسيحية . ولا يقدم على ذلك إلا المتحللون عندهم من العقيدة !
وهكذا يبدو أن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يسمح بقيام مجتمع عالمي ، لا عزلة فيه بين المسلمين وأصحاب الديانات الكتابية ; ولا حواجز بين أصحاب العقائد المختلفة ، التي تظلها راية المجتمع الإسلامي . فيما يختص بالعشرة والسلوك (أما الولاء والنصرة فلها حكم آخر سيجيء في سياق السورة ) .
وشرط حل المحصنات الكتابيات ، هو شرط حل المحصنات المؤمنات :
إذا آتيتموهن أجورهن محصنين، غير مسافحين، ولا متخذي أخدان .
ذلك أن تؤدى المهور ، بقصد النكاح الشرعي ، الذي يحصن به الرجل امرأته ويصونها ، لا أن يكون هذا المال طريقا إلى السفاح أو المخادنة . . والسفاح هو أن تكون المرأة لأي رجل ; والمخادنة أن تكون المرأة لخدين خاص بغير زواج . . وهذا وذلك كانا معروفين في الجاهلية العربية ، ومعترفا بهما من المجتمع الجاهلي . قبل أن يطهره الإسلام ، ويزكيه ، ويرفعه من السفح الهابط إلى القمة السامقة . .
ويعقب على هذه الأحكام تعقيبا فيه تشديد ، وفيه تهديد :
ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين . .
إن هذه التشريعات كلها منوطة بالإيمان ; وتنفيذها كما هي هو الإيمان ; أو هو دليل الإيمان . فالذي يعدل عنها إنما يكفر بالإيمان ويستره ويغطيه ويجحده . والذي يكفر بالإيمان يبطل عمله ويصبح ردا عليه لا يقبل منه ، ولا يقر عليه . . والحبوط مأخوذ من انتفاخ الدابة وموتها إذا رعت مرعى ساما . . وهو تصوير لحقيقة العمل الباطل . فهو ينتفخ ثم ينعدم أثره كالدابة التي تتسمم وتنتفخ وتموت . . وفي الآخرة تكون الخسارة فوق حبوط العمل وبطلانه في الدنيا . .
وهذا التعقيب الشديد ، والتهديد المخيف ، يجيء على إثر حكم شرعي يختص بحلال وحرام في المطاعم والمناكح . . فيدل على ترابط جزئيات هذا المنهج ; وأن كل جزئية فيه هي "الدين " الذي لا هوادة في الخلاف عنه ، ولا قبول لما يصدر مخالفا له في الصغير أو في الكبير .