نصوص هذا الدرس كله تؤيد ما ذهبنا إليه في تقديم السورة ، من أن هذه السورة لم تنزل كلها بعد سورة الفتح التي نزلت في الحديبية في العام السادس الهجري ; وأن مقاطع كثيرة فيها يرجح أن تكون قد نزلت قبل ذلك ; وقبل إجلاء بني قريظة في العام الرابع - عام الأحزاب - على الأقل ، إن لم يكن قبل هذا التاريخ أيضا . . قبل إجلاء بني النضير بعد أحد ، وبني قينقاع بعد بدر . .
فهذه النصوص تشير إلى أحداث ، وإلى حالات واقعة في الجماعة المسلمة بالمدينة ، وإلى ملابسات ومواقف لليهود وللمنافقين ، لا تكون أبدا بعد كسر شوكة اليهود ; وآخرها كان في وقعة بني قريظة .
فهذا النص عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء . وهذا التحذير - بل التهديد - بأن من يتولهم فهو منهم . وهذه الإشارة إلى أن الذين في قلوبهم مرض يوالونهم ، ويحتجون بأنهم يخشون الدوائر . وتنفير المسلمين من الولاء لمن يتخذون دينهم هزوا ولعبا ، والإشارة إلى أن هؤلاء يتخذون صلاة المسلمين - إذا قام المسلمون إلى الصلاة - هزوا ولعبا . . . كل أولئك لا يكون إلا ولليهود في المدينة من القوة والنفوذ والتمكن ، ما يجعل من الممكن أن تقوم هذه الملابسات ، وأن تقع هذه الحوادث ; وأن يحتاج الأمر إلى هذا التحذير المشدد ، وإلى هذا التهديد المكرر ، ثم إلى بيان حقيقة اليهود ، والتشهير بهم والتنديد ، وإلى كشف كيدهم ومناوراتهم ومداوراتهم على هذا النحو ، المنوع الأساليب .
وقد ذكرت بعض الروايات أسبابا لنزول آيات في هذا الدرس ; ويرجع بعضها إلى حادث بني قينقاع بعد غزوة بدر . وموقف عبد الله بن أبى بن سلول . وقوله في ولائه لليهود وولاء اليهود له : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي !
وحتى بدون هذه الروايات ، فإن الدراسة الموضوعية لطبيعة النصوص وجوها ، ومراجعتها على أحداث السيرة ومراحلها وأطوارها في المدينة ، تكفي لترجيح ما ذهبنا إليه في تقديم السورة عن الفترة التي نزلت فيها . .
وتشير نصوص هذا الدرس إلى طريقة المنهج القرآني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لدورها الذي قدره الله لها ; كما تشير إلى مقومات هذا المنهج والمبادئ التي يريد تقريرها في النفس المسلمة وفي الجماعة المسلمة في كل حين . وهي مقومات ومبادئ ثابتة ، ليست خاصة بجيل من هذه الأمة دون جيل . إنما هي أساس النشأة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة في كل جيل . .
إن هذا القرآن يربي الفرد المسلم على أساس إخلاص ولائه لربه ورسوله وعقيدته وجماعته المسلمة ، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الذي يقف فيه وكل صف آخر لا يرفع راية الله ، ولا يتبع قيادة رسول الله ; ولا ينضم إلى الجماعة التي تمثل حزب الله . وإشعاره أنه موضع اختيار الله ، ليكون ستارا لقدرته ، وأداة لتحقيق قدره في حياة البشر وفي وقائع التاريخ . وأن هذا الاختيار - بكل تكاليفه - فضل من الله يؤتيه [ ص: 908 ] من يشاء . وأن موالاة غير الجماعة المسلمة معناه الارتداد عن دين الله ، والنكول عن هذا الاختيار العظيم ، والتخلي عن هذا التفضيل الجميل . .
وهذا التوجيه واضح في النصوص الكثيرة في هذا الدرس .