ومن ثم فلن نحاول عرض الموضوعات التي تحتويها السورة في هذا التعريف ; وإنما سنحاول فقط عرض نماذج من هذه الموجات المتلاحقة فيها :
تبدأ السورة بمواجهة
المشركين ، الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى ، بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم وتطالعهم في الآفاق وفي أنفسهم . . تبدأ بمواجهتهم بحقيقة الألوهية متجلية في لمسات عريضة تشمل الوجود كله ; وتشمل وجودهم كله . . تبدأ في لمسات ثلاث ترسم مجالي الوجود الكبيرة على أقصى عمق واتساع :
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ ص: 1023 ] هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا، وأجل مسمى عنده، ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون . .
ثلاث آيات تذرع الوجود الكوني كله في الآية الأولى ، وتذرع الوجود الإنساني كله في الآية الثانية . . ثم تحيط الألوهية بالوجودين كليهما في الآية الثالثة !
أي إعجاز ! وأية روعة ! وأي شمول ! وأية إحاطة !
وأمام هذا الوجود الكوني الشاهد بوحدة الخالق . وأمام هذا الوجود الإنساني الشاهد بتدبيره . وأمام هذه الألوهية الحاكمة في السماوات وفي الأرض ; العالمة بالسر والجهر والكسب . . يبدو شرك المشركين ، وامتراء الممترين ، عجبا منكرا لا مكان له في نظام الكون ، ولا مكان له في فطرة النفس ، ولا سند له في القلب والعقل !
وفي هذه اللحظة تبدأ الموجة التالية تعرض موقف المكذبين بآيات الله هذه المبثوثة في الكون والحياة ; ومع عرض الموقف المنكر الغريب ، يجيء التهديد ، وتعرض مصارع الغابرين ، ويتجلى السلطان القاهر الذي تدل عليه هذه المصارع ، وهذه القوارع . فيبدو عجيبا منكرا تعنت المنكرين أمام هذا الحق المبين ; ويبدو أن المنكرين ليس الذي ينقصهم هو الدليل ولكنه صدق النية ، وتفتح القلب للدليل :
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا، وللبسنا عليهم ما يلبسون ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون قل: سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين . .
ومن هنا تبدأ موجة ثالثة في التعريف بحقيقة الألوهية ، متجلية في ملكية الله سبحانه لما في السماوات وما في الأرض ، ولما سكن بالليل والنهار . ومتجلية في كونه الرازق الذي يطعم ولا يطعم . فهو من ثم الولي الذي لا ولي غيره . الذي يجب أن يسلم العبيد أنفسهم إليه وحده . وهو الذي يعذب العصاة في الآخرة . وهو الذي يملك الضر والخير . وهو على كل شيء قدير .
وهو القاهر فوق عباده . وهو الحكيم الخبير . .
وتبلغ الموجة قمتها بعد هذا التمهيد كله ، في الإشهاد والمفاصلة بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبين القوم ، وإنذارهم والتبرؤ من شركهم ، وإعلان التوحيد في مواجهتهم ، في رنة عالية فاصلة جازمة :
قل: لمن ما في السماوات والأرض؟ قل: لله. كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل: أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض، وهو يطعم ولا يطعم؟ قل: إني أمرت أن أكون أول من أسلم، ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه، وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله شهيد بيني وبينكم، وأوحي [ ص: 1024 ] إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد. قل إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون . .
ثم تبدأ موجة رابعة تتحدث عن معرفة أهل الكتاب لهذا الكتاب الجديد الذي يكذب به المشركون ; وتصف هذا الشرك بأنه أظلم الظلم ; وتقف المشركين أمام مشهدهم يوم الحشر وهم يسألون عن شركائهم فينكرون الشرك ويذهب عنهم الافتراء ; وتصور حالهم وأجهزة الاستقبال الفطرية فيهم معطلة ، لا تلتقط موحيات الإيمان ولا تستجيب ، وقلوبهم محجوبة لا تدرك دلائل الإيمان ، وهم يدعون أن هذا القرآن أساطير الأولين ; وتقول لهم : إنهم يهلكون أنفسهم وهم ينهون غيرهم عن الهدى ، وينأون عنه . ثم تصور حالهم وهم موقوفون على النار يقولون :
يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ! ثم تعود بهم إلى الدنيا وهم ينكرون البعث والمعاد . ثم تعقب على هذا بتصوير حالهم وهم موقوفون على ربهم ، وهم يسألون عن هذا الإنكار ; وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم . وتنتهي الموجة بتقرير خسارة المكذبين بلقاء الله ، وتفاهة الحياة الدنيا إلى جانب الدار الآخرة المدخرة للذين يتقون :
الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا. ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم، وضل عنهم ما كانوا يفترون ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار، فقالوا: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وإنهم لكاذبون وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال: أليس هذا بالحق؟ قالوا: بلى وربنا! قال: فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا: يا حسرتنا على ما فرطنا فيها، وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو. وللدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون . .
ثم تبدأ موجة خامسة ، يلتفت فيها السياق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسليه ويسري عنه ما يحزنه من تكذيبهم له ولما جاءهم من عند الله به . ويجعل له أسوة في الرسل قبله ممن صبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله . ويقرر أن سنة الله لا تتبدل ، ولكنها كذلك لا تستعجل ! فإن كان - صلى الله عليه وسلم - لا يصبر على إعراضهم ، فليبذل جهده البشري في إتيانهم بخارقة ! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى .
إنما اقتضت مشيئته في خلقه - وهو وحده صاحب الأمر المتصرف - أن يستجيب الذين لا تتعطل أجهزتهم الفطرية عن التلقي . والموتى لا حياة فيهم فهم لا يستقبلون موحيات الهدى ولا يستجيبون . والله يبعثهم ، وهم إليه يرجعون . .
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون، فإنهم لا يكذبونك، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم [ ص: 1025 ] بآية. ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون، والموتى يبعثهم الله، ثم إليه يرجعون . .